عازفٌ ماهر! هذا ما سيقوله المستمع حين يُنصت لموسيقا "أنس العودة"، لكنّ ما يجعله مختلفاً عن عشرات الموسيقيين من جيله، هي التوليفة التي يُتقن صياغتها كلّ مرة، بين الرصانة والإمتاع، حتى يتمنى متابعوه، ألّا تتوقف نقرات أصابعه على العود. تفوّق العودة في دراسته في المعهد العالي للموسيقا، لكنه عرف دوماً أن معيار كفاءة الموسيقي، ما يقدمه من إنتاجٍ وأداءٍ على المسرح.
يقول العودة في حديثٍ إلى "مدوّنة الموسيقا": "يمكن أن يكون التفوق بمثابة توصية تساعد الموسيقي على الدخول في معترك العمل بعد بدء مسيرته كموسيقي محترف، بالتالي وصوله للناس، أما الشغف فهو ما أدركتُ لاحقاً أنه من أهم العوامل التي يجب أن تتوافر في الموسيقي وخاصة في بلادنا العربية".
ويرى عازف العود إن: "مسيرة الإحتراف في الموسيقا، مسألة شاقة، يكون الشغف فيها هو الدافع الأساسي الذي يساعد الموسقي في الوصول إلى أهدافه، فلا يمكن مقارنة الفرص المتاحة لدى أفضل الموسقيين في الدول المتقدمة مع الفرص المتاحة لدى أفضل الموسقيين في بلادنا، وهنا يكون الشغف ما يجعل الصعب سهلاً، وبالتالي لا يُصاب الموسيقي باليأس في منتصف الطريق".
موسيقا من أجل ذاتها!
أمّا علاقة الإنتاج الموسيقي والرائج من الموسيقا، فهي الشق الأكثر جدلية، والذي يقودنا برأيه، إلى التساؤل حول: هل يجب أن تكون الموسيقا من أجل ذاتها أم ليتم تقديمها للمستمع؟، وهو أمرٌ يختلف على حد قوله من موسيقي إلى آخر حسب أهدافه وعصره. يوضح العودة للمدوّنة: "لا يمكن إنكار أن الثقافة الموسيقية في بلادنا، ثقافة غنائية، بالتالي المستمع أكثر تتبعاً لما يُقدّم من الإنتاج الغنائي منه للإنتاج الموسيقي الآلي، كما أن علاقة السوق والموسيقا تلعب الدور الأهم في العصر الموسيقي فلو أخذنا مثلاً العصر الذهبي للأغنية العربية وخاصة في مصر، لوجدنا أن عباقرة صناع الموسيقا في ذلك العصر، والذين كتبوا تاريخ الأغنية العربية كانوا نجوم عصرهم، ولم يكونوا بحاجة إلى الخوض عميقاً في هذه المسألة، إذاً مهمة الموسيقي في هذا العصر إذا أراد تقديم محتوى موسيقي ذو قيمة، دون أن يبتعد عن المستمع، مهمة صعبة، لكن ستشكل دافعاً له في مسيرته".
رباعي العود السوري
شارك العودة كعازف عود مع العديد من الفرق الموسيقية، لكن مشاركاته مع "رباعي العود السوري" و"الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية" تحديداً، أضافت له الكثير، يقول: "العود آلة صولو، بالتالي العزف مع الفرق الموسيقية يعزز المهارات الموسيقية لدى العازف، كالاستماع والتعرف عن قرب بأنماط العزف المختلفة على الآلات الأخرى، وعلى الصعيد الشخصي لا يمكن أن أنسى اللحظات التي يتهيأ فيها الموسيقيون للصعود للمسرح فهذه اللحظات الحميمية للموسيقي لا تتواجد عادةً عندما يقوم بالأداء الصولو".
أما عن المشاركات الخارجية فقد لمس ما يُقال دوماً عن إقبال الناس على المختلف عن ثقافتهم، من ذلك مشاركته مع الرباعي في حفلات الهند، "كان إعجاب الناس هناك كبيراً، رغم أن الكثير منهم لم يكونوا حتى قد شاهدوا آلة العود من قبل".
انضمام العودة إلى "رباعي العود السوري"، محطةٌ مفصلية في تجربته، شكّلت في الوقت نفسه مساحة للتنافس بقدر ما فيها من انسجام، استطاع العازفون توجيهه ليكون خادماً للمشروع، يضيف: "هذا يأتي من إدراكنا أن النجاح في هكذا مشاريع لا يكون نابعاً إلا من نجاح المشروع ككل، وبالتالي روح العمل الجماعي أساس للاستمرارية".
أمّا عن الجدة التي قدّمها الرباعي في المشهد الموسيقي المحلي، يقول العودة: "رباعي العود، بما قدمه مؤسسه الموسيقي محمد عثمان، إن كان من موسيقا مكتوبة حصراً لهذا التشكيل أو من الأعمال العالمية التي وُزِعت للعود، والجهد المبذول من العازفين وايمانهم بالمشروع، كان نقلة نوعية للموسيقا السورية والعربية في هذه النوعية من المشاريع".
يتحدث عازف العود عن نقل تجربة الرباعي (الكوارتيت) في الموسيقا العالمية وتطويعها لتقديم موسيقا أصيلة سورية، وهو كما يقول: "يثبت أننا قادرون أن نقدم موسيقانا بطريقة متقدمة علمياً وأدائياً مع المحافظة على هوية الموسيقا السورية، ويضع العود في مصاف الآلات العالمية القادرة على الأداء الموسيقي بكل أشكاله، إضافة الى تقديم نمطٍ جديد من التشكيلات الموسيقية للمستمع، والتي لم يعتد على سماعها وبالتالي الوصول إلى التجديد والإبداع، كما أن الرباعي كان مساحة جديدة من الفرص لعازفي العود، لأن مشاركة العود كانت مقتصرة على عازفٍ واحد ضمن الفرق الموسيقية المعتادة".
أسطوانة "سويت رقم 1"
عام 2018 ، أي بعد عام واحد على تخرّج العودة من المعهد، أطلق الرباعي أسطوانة (سويت رقم 1)، لذلك كانت مشاركته في تسجيل هذه الأسطوانة بما تحمله من تجديد وقيمة فنية وموسيقية، "محطة مهمة في بداية مسيرته كموسيقي محترف، فضلاً عن الخبرة التي اكتسبها في طريقة صناعة الأسطوانة، والتي ستكون نقطة انطلاق مستقبلاً لتسجيل أسطوانة خاصة به". يقول أيضاً: "هكذا تجربة تحتاج للدعم حتى تتجه أكثر نحو النجاح فضلاً عن الإستمرارية، نالت الأسطوانة إعجاب الكثير من النقاد والموسيقيين والمستمعين داخل سورية وخارجها".
مع اليونيسكو
ومن المحطات اللافتة في مشوار عازف العود، إعداده عملاً موسيقياً لصالح اليونيسكو، في مشروعٍ يجمع بين التراث المادي واللامادي في سورية، وعليه كما يشرح "سُجِلت موسيقا في مواقع أثرية سوريّة تؤديها العازفة اللاتيفية "إليزي كيرزانوفا"، من ضمنها تم اختيار الموسيقا التراثية (هالأسمر اللون)، أعدّها لثنائي عود وكمان، وتم تسجيلها في بيت نظام الأثري الشهير في دمشق القديمة, كما أقيم حفلٌ مشترك في قاعة العرش الملكية في قلعة حلب لمئة طفل من الذين عانوا خلال سنوات الحرب في مدينة حلب، بالتزامن مع الذكرى المئوية لاستقلال لاتفيا بلد عازفة الكمان".
يسعى العودة فيما يخص العود إلى إنتاج موسيقا تُسلّط الضوء على الشق الأدائي والإبداعي معاً، فهو يرى "مشكلة حقيقية لدى عازفي العود والآلات الشرقية عموماً في فهم هذين الشقين في الأداء رغم عدم انفصالهما"، يوضح للمدوّنة: "مفهوم العازف المحترف (الفيرتيوزو) الموجود في الموسيقا العالمية يكاد يكون نادراً لدى عازفي العود، ومنه لا نرى موسيقانا الآلية تُؤدى وتُوثق بطريقة احترافية ومتقدمة علماً وفهماً، بسبب اتجاه العازفين مباشرة الى المجال الإبداعي في التأليف، وهو جزء أساسي من أهدافي لكن دون إهمال أداء موسيقانا الآلية التي بطبيعتها تحتوي الشق الإبداعي، خاصة في مفهوم الارتجال".
وفي عوالم الموسيقا الشرقية، يطمح إلى العمل في "محاولة إعادة الموسيقا الشرقية الأصيلة إلى غناها الحقيقي من خلال فهم الجوهر الذي تقوم عليه، وهو المقام، ليكون هذا الفهم نقطة انطلاق حقيقة للمتابعة في إنتاج الموسيقا وتطويرها وتقديمها للمستمع".