فن الإنشاد الروحاني هو نوع من أنواع الغناء المُرتجل يتكيف صاحبه مع واقع الحال والظروف الطارئة، ويتفرد بأنه يتواكب مع المُناسبات الدينية التي ترتبط بالروحانية والصوفية المُطلقة، وكان للمدرسة الشامية السبق في تطوير مدارس الإنشاد الديني من خامات وأدوات، ولها الفضل الكبير في نقل التجربة الشامية إلى فضاءات أخرى من العالمين العربي والإسلامي.

أُصُولِ الغِنَاءِ الرُّوحَانِيِّ

"محمد فياض الفياض" باحث في التراث الشعبي يقول في حديثه لـ"مدونة الموسيقا": «هو نوع من أنواعِ المُناجاة للتقرب من الروح الإلهية بغية الغفران والرحمة والتوبة، ولعل البدايات كانت منذ انطلقت حنجرة "بلال الحبشي" في رفع الأذان للصلاة، إذ كان يجود في رفعهِ خمس مرات، وكان يرتل ترتيلاً حسناً متناغماً، ومن هنا جاءت فكرة الأصوات الندية ومدارس الإنشاد الديني، ويقال إن النبي "محمد" صلَّى الله عليه وسلم قد مرَّ بنسوةٍ كُنَّ يمدحنهُ ويقلنَّ: نحنُ نسوةٌ من بني النجار يا حبَّذا مُحمَّد من جار.. ثم تطورت فكرة الأناشيد الدينية بعد ذلك على أيدي المؤذنين في "الشام" و"مصر" و"العراق" وغير ذلك من بلدان وفضاءات عربية، وأصبح لها قوالب متعددة وطرائق شتى».

التُّرَاثُ الإِسلَامِيِّ

ويتابع "القياض": «بخصوص المدارس الإنشادية المرتبطة بشهر رمضان وطقوسه يعود الأصل فيها إلى المدرسة الشامية، وتؤكد كتب التراث الإسلامي أن بداية الإنشاد الديني الروحاني ولد على أيدي مجموعة من الصحابة في عهد الرسول "محمد بن عبد الله" صلَّى الله عليه وسلم، ثم مجموعة أخرى من التابعين، وكانت قصائد "حسان بن ثابت" شاعر الرسول صلَّى الله عليه وسلم هي ينبوع الإنشاد الديني، ثم تغنوا بقصائد أخرى لغيره من الشعراء الذين كتبوا في موضوعات متنوعة».

1- الباحث محمد فياض الفياض

مِن "دِمَشقَ" وَ"حَلَبَ"

2- المنشد محمد عمر أبو حرب

في العهد الأموي تجذرت مدارس الإنشاد الديني وبرزت بقوة في الحياة الاجتماعية، وحول ذلك يقول الباحث "الفياض": «من أكثر المشتغلين بفن الإنشاد الديني وتلحين القصائد، "إبراهيم بن المهدي" وأخته "عَليَةَ"، "أبو عيسى صالح"، "عبد الله بن موسى الهادي"، "المعتز وابنه عبد الله"، و"عبد الله بن محمد الأمين"، و"أبو عيسى بن المتوكل"، و"عبد الملك بن مروان" الذي كان في "دمشق" يُشجع الموسيقيين ورجال الفن، وكذلك كان الخليفة الواثق الذي كان يغني لهُ "إسحق وإبراهيم الموصلي" وهما من أشهر الموسيقيين في العصر الأموي، و"عبد الرحمن بن الحكم" الذي ذاع في عهدهِ صيتُ الفتى "زرياب" ركن الموسيقا والغناء، وهو تلميذ "إسحق الموصلي"، كما برزت مدرسة أخرى موازية لدمشق وهي "حلب" في التفرد في تلحين القصائد الدينية وكذلك الأناشيد والموشحات».

كانت الأناشيد الدينية طقوساً روحانية لها فلسفتها الخاصة، ويتابع الباحث "الفياض" عنها بقوله: «في عهد الفاطميين تطور هذا الإنشاد وتعددت طرقه وصوره، فهم أول من أقاموا الاحتفال بالمناسبات الدينية مثل رأس السنة الهجرية، وليلة المولد النبوي الشريف وليلة الإسراء والمعراج، وغرة رمضان ويوم الفطر، وهم الذين قاموا بالاحتفال بمولد أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" كرم الله وجهه ومولد ولديه الحسن والحسين والسيدة زينب، ويوم النيروز ويوم الغطاس وخميس العهد مشاركة للنصارى في شعورهم الديني».

خَلَوَاتٌ خَاصَّةٌ

وحسب الباحث "الفياض" كان لهذا النوع من الأناشيد خلوات تفرد، وجلسات روحانية وتأملات في فلسفة الدين وتجلياته، أوصلت أصحاب المذاهب لاسيما المتصوفة إلى وضع قواعد هذا الغناء، ومن ثم انتشر وفق مقتضيات الحاجة، ووفق المناسبات الدينية.

ظهرت طوائف التصوف بحلة جديدة وأصبح لكل فئة منشدوها، فقد ابتدع هؤلاء لأنفسهم طرقاً جديدة في التعبير وفي التقرب إلى الله، حيث أدرك هؤلاء أهمية الجانب الوجداني، فأكدوا مبدأ التأثير بالموسيقا وأدخلوها ضمن شعائرهم، وكانت فلسفتهم تستند إلى مؤسس هذه المدرسة ألا وهو "جلال الدين الرومي" أشهر المنشدين حتى يومنا هذا.

فِي رَمَضَان

وفي عصرنا الحديث ومع بدايات القرن العشرين أصبح للإنشاد الديني أهمية كبرى، حيث تصدر هذا اللون من الغناء كبار المشايخ والمنشدين الذين كانوا يحيون الليالي الرمضانية والمناسبات الدينية ويشرح عن ذلك الباحث "الفياض" بقوله: «برز الإنشاد الديني بقوة على الساحة العربية والإسلامية، وأصبحت المدرسة الشامية من أهم المدارس التي أبدعت في اختياراتها وتنوع موضوعاتها، وأصبح يتخلل الإنشاد الديني كثير من الحوارات الغنائية بين المنشد الأصلي وبين مجموعة المنشدين من خلفه، وكان المُنشد يتوسط الحلقة ويلتف حوله مجموعة "السنيدة"، وكان المنشد يختار مقطعاً من القصيدة أو جملة يجعلها محوراً تدور حولها كل الردود من ورائه، ثم يعودون إليها بعد المنشد، وكانت الوصلة الأولى يختار لها الشيخ المنشد مقاماً موسيقياً معيناً نحو "الراست" أو "البيات" أو "الحجاز" وغير ذلك من المقامات، ثم يبدأ المنشد "الوصلة" بإبراز مواهبه في الأداء وبراعته في التنقل بين المقام الأصلي ومشتقاته وقدرته على إبراز الحليات والزخارف اللحنية، ثم يقوم المنشدون بعد ذلك بترديد المقطع أو الجملة المحورية التي بدأ بها القصيدة، ثم تأتي الوصلة الثانية فيختار لها مقاماً موسيقياً آخر حتى ينوع في المقامات وحتى لا يمل السامعون ويفعل ما فعله في الوصلة الأولى» .

الآَلَاتُ المُوسِيقِيَّةُ المُرتَبِطَةُ بِالإِنشَادِ الدِّينِيِّ

حول الآلات الموسيقية المرافقة يقول الباحث "الفياض": «كان الإنشاد الديني بداية يُغنى من دون مصاحبة الآلات الموسيقية إلا في استخدام نقر السبحةِ على كوبٍ من الماء ليحدث رنيناً جذاباً، ثم تطور بعد ذلك ليصبح فناً لهُ أصوله وأشكاله وأدواته الموسيقية، فبدأ يعتمد على الجملة اللحنية المبتكرة وكذلك استخدام "اللازمات الموسيقية" والإيقاعات التي تناسب روح القصيدة، فتكونت الفرق الموسيقية المُصاحبة للمنشد وكانت تسمى آنذاك "التخت" أو الخماسي الموسيقي والذي يعتمد العود والقانون والناي والكمان والإيقاع، وكان المنشد يتوسط المنصة وحوله يلتف الموسيقيون بشكل دائري، ثم انتقل الإنشاد من الارتجال والتطريب إلى التعبير والتأثير فضلاً عن استحداث جمل تسمى "اللازمات" وإيقاعات متنوعة وجمل حوارية بين الآلات بعضها مع بعض وبين المنشدين، وقد تكونت فرق خاصة بأداء هذا اللون تسمى "فرق الموسيقا العربية" التي تتناول التراث الموسيقي والغنائي بأشكال وقوالب جديدة».

أَشهَرُ المُنشِدِينَ

يقول مطلع أحد الأناشيد التي تفردت بها المدرسة الشامية والتي تُنشد في شهر رمضان المبارك: رمضان تجلى وابتسم طوبى للعبد إذا اغتنم.. حيث يُعد الراحل "توفيق المُنجد" عميد المدرسة الشامية في فن أداء الإنشاد الديني، وحسب الباحث "الفياض" لمعت أسماء كثيرة قديمة في هذا المجال منهم "فؤاد الخنطوماني"، "صبري مدلل"، "منذر السرميني أبو الجود"، "محمد أبو راتب" وقد أدت إذاعة دمشق دوراً بارزاً عند افتتاحها في العام 1947م في إبراز جوقة المنشدين الأمر الذي دفعهم لتشكيل طرق الإنشاد، ونقلت لنا عبر أثيرها أصوات العديد من القامات منهم "توفيق المنجد" "حمزة شكور"، "سعيد فرحات"، "سليمان داود"، "سليم البيطار" وغيرهم.

ويبين الباحث "الفياض" أنه في مطلع السبعينيات برز اسم "حمزة شكور" بقوة في ميدان الغناء والإنشاد الديني، انضمت فرقته إلى رابطة المنشدين بدمشق ثم جاء المنشد "موفق أحمد أبو شعر الحسيني" ومن بعده أبناؤه الستة الذين يعرفون اليوم بالإخوة أبو شعر "رابطة أبي أيوب الأنصاري".

مِن الجَامِعِ الأَمَوِيِّ إِلَى العَالَمِ

من جهته المنشد "محمد عمر أبو حرب" نجل المنشد "عبد الوهاب أبو حرب" يقول: «يعود أصل الأناشيد الدينية الشامية وموسيقاها إلى العام السابع عشر الميلادي وينسبها إلى الشيخ الفقيه "عبد الغني النابلسي" المولود بدمشق عام1641 والمتوفي عام 1731 المؤسس والمبدع والملحن لكل ما يتعلق بترتيبات الأذان الجماعي وتعليمات وصلواته وألوانه ومقاماته والتراحيم والتسابيح التي تسبق أذان الفجر بعدة ساعات حيث امتازت "دمشق" بالأناشيد النبوية والألحان الرائعة الروحانية التي بدأ بها الشيخ "عبد الغني النابلسي" إيجاداً وإبداعاً وتأسيساً والشيخ "أمين الجندي"».

ويتابع المنشد "محمد عمر أبو حرب": «امتازت "دمشق" حتى اليوم بالأناشيد القديمة التي انبثقت من روح الجامع الأموي وانطلقت منها إلى العالم، خاصةً في فترة السحور قبل بدء الصيام حيث يلجأ الناس لله تعالى في المساجد وخاصةً الأموي قبل الفجر بساعات وتجتمع فيها حلقات العلم والإنشاد والابتهال لله بالعديد من الطرق وكان يسبق أذان الفجر والإمساك فترة تراحيم وتسابيح تليها فترة الإنشاد لفرق الإنشاد وملحنيها ومنهم "توفيق المنجد"، "سليمان داود"، "حمزة شكور"، "مسلم بيطار"، "سعيد فرحات"، وأشهر الملحنين هم "عبد العال الجرشة"، "عبد الوهاب أبو حرب"، "زهير منيني"، "فؤاد محفوظ"، "زكي محمد"، "مسلم بيطار"، "عدنان أبو الشامات"، "عبد السلام سفر" وغيرهم».