لشهر رمضان شهر الخير والبركة في مدينة "حلب" طقوسه وعاداته الخاصة الجميلة التي يتميز بها الأهالي والأصحاب والجيران مع بعضهم البعض، حيث يجتمعون على موائد مشتركة عند الإفطار، وبعد الانتهاء من صلاة العشاء والتراويح يبدأ برنامج آخر لسهرهم، يتخلله تناول الحلويات الخاصة والمشغولة بمنازلهم مثل القطايف والسيالات والكنافة والمعمول والكعك. تليها إقامة السهرات والحفلات التي تكون على الغالب بطابع الأغاني الأناشيد والرقصات الدينية والمولوية والسماح وتستمر تلك الحفلات إلى ما قبل موعد السحور بساعة.

"دِمَشق" رَائِدَةُ الإِنشَادِ الدِّينِيِّ

يشرح الباحث الموسيقي الدكتور "أيمن سيد وهبة" لـ"مدونة موسيقا" واقع الغناء والإنشاد الديني الذي تم غنائه في بلدنا قبل عدة عقود ماضية، فيقول: «يجب أن نميز ما بين الإنشاد والتواشيح من جهة، والغناء الديني الذي تم تداوله خلال شهر رمضان المبارك في العقود الماضية من جهة أخرى، ما بين مدينتي "دمشق" أولاً و"حلب" ثانياً، وللحقيقة التي يجب أن تقال أن الأولى تعتبر من أوائل المدن العربية التي زاولت طقوس الإنشاد الديني، وما كان يرافقه من أذكار وموشحات صوفية خلال شهر رمضان منذ ما يقارب ثلاثمئة عام مضت، ومنها انتشر لباقي المدن السورية الأخرى وخاصة نحو شقيقاتها "حلب" و"حمص" و"حماة" و"اللاذقية" وباقي المدن السورية الأخرى، وكذلك تسابقت الكثير من الدول العربية لاقتباس الإنشاد الديني من "دمشق"، ولعل الأذان الجماعي والتسابيح ميزة اكتسبها جامع بني أمية الكبير واعتاد السوريون على سماع تلك الأناشيد والطقوس والقصائد من الجامع المذكور، وكذلك عبر أثير الإذاعة والتلفزيون السوري قبيل الإفطار والسحر».

النابلسي والمنجد وشكور وداوود شيوخ الإنشاد الدمشقي

1- الدكتور وهبة يتلو مادة تاريخ الإنشاد الديني ما بين مدينتي دمشق وحلب لمدونة موسيقا

يعتبر المنشد الديني الشيخ "عبد الغني النابلسي" من "دمشق" وهو شاعر صوفي رائد الإنشاد الديني في جامع بني "أمية الكبير" في القرن السابع عشر، وعنه توارثت الأجيال المتلاحقة هذه الطقوس الدينية وإن كنا لا نعرف الكثير عن الذي توارثوا تلك الطقوس بسبب عدم حفظها في وسائل الاعلام آنذاك في تلك الفترة، وعند انطلاق البث الإذاعي كان من جملة اهتماماتها بث أغاني المنشدين الدينين، حيث فتحت لهم استديوهات التسجيل والابتهالات، ويُعتبر المنشدون "توفيق المنجد" و"سليمان داوود" و"حمزة شكور" في طليعة تلك الحقبة.

حيث كان لكل منشد منهم فرقته الخاصة التي تبث نشاطها عبر التلفزيون في النقولات المباشرة والمناسبات من الجامع الأموي، ولازال الكل يذكر إبداع فرقة رابطة المنشدين التي أمتعت آذان السوريين لعقود عديدة وتربت على أناشيدهم أجيال عديدة حتى رحيلهم.

2- حوار حول إعداد المادة بين الدكتور وهبة ومراسل مدونة الموسيقا في حلب زهير النعمة

وظهرت بعد رحيلهم فرق أخرى لكنها لم ترقَ لذات السمعة السابقة، حيث لم تقم بالتجديد وإنما اعتمدت على تكرار الإنشاد السابق من دون أي إضافات جديدة.. لا بل قامت بإدخال بعض الآلات الإيقاعية الكهربائية مع الدفوف، وهذا ما اعتبر تراجعاً غير مبرر، وقلل من جمال ورونق وعطاء التراث الجميل بالشكل الذي أعيد تداوله لاحقاً. ومن الأسماء الجديدة، ظهرت أسماء "حامد سليمان داوود" و"عماد رامي" و" فواز الخوجة" و"آل أبو شعر".

ومن أشهر الأناشيد الرمضانية التي رددت في تلك الفترة (رمضان شهر الهدى- أهلاً رمضان- رمضان تجلى وابتسم- يا رفاقي ودعوا شهر الصيام).

3- الباحث الموسيقي الدكتور أيمن سيد وهبة

الإِنشَادُ الدِّينِيُّ فِي حَلَب

4- حمدي قواف مهتم بالفن والتراث الحلبي والإنشاد الديني

وبحكم انتقال الفنون والثقافات بين المدن السورية، انتقل الإنشاد الديني لمدينة "حلب" وغناه شيوخ المدينة ولو بشكل متأخر في الجامع الكبير بـ"حلب" وخاصة خلال شهر رمضان.

صبري المدلل شَيخُ الإِنشَادِ الحَلَبِيِّ

ويعتبر الشيخ "صبري المدلل" مع زملائه الآخرين "حسن الحفار" و"أديب الدايخ" و"محمد خير الحلواني" "محمود فارس" هم في طليعة الرواد الذين مارسوا الغناء والإنشاد الديني المقتبس، وعلى طريقة القد، حيث تم تطبيق كلمات وألحان التواشيح الدينية على قد الأغاني العامة من التراث الحلبي.

ومن منا لا يذكر أنشودة "أحمد يا حبيبي سلام عليك" ومع ذلك تأخر الإعلام الإذاعي والتلفزيون بتسليط الضوء على أعمالهم كونهم بعيدين عن مركز الإذاعة والتلفزيون في العاصمة. ويقول الدكتور "وهبة": من دواعي سروري وكان لي الشرف بحضوري سهرة رمضانية جميلة بالإنشاد والتواشيح في فترة السبعينيات أقيمت بالجامع الكبير أحياها الشيخ "صبري مدلل".

هَلْ كَانَتْ مِصر رَائِدَةَ الغِنَاءِ الدِّينِيِّ؟

وبالمقابل -كما يتابع الدكتور "وهبة" حديثه وشرحه لـ"مدونة موسيقا" فيقول- لم يستطع مطربو "سورية" مواكبة منشديها بتقديم وافر وكم أغان مميزة خلال شهر رمضان المبارك، على خلاف أقرانهم في جمهورية "مصر"، حيث كانوا السباقين على مستوى الوطن العربي بتأليف وتلحين أغانٍ خاصة لشهر رمضان، ومن نوادر التسجيلات غير المعروفة التي عثرنا وننشر بعضاً منها ولأول مرة في هذه المادة أغنية (رمضان كريم) "لسعاد محمد" و"أنا وبنتي ورمضان" للمطرب السوري الأصل "ضياء الدين محمد" و"يا شهر رمضان" بصوت "فايزة أحمد" وأغنية "نجيب السراج" بارك إله الكون شهرَ الصيام، وأخيراً أغنية الراحل "صباح فخري" أسماء الله الحسنى.

"حمدي قواف" مهتم بالتراث والإنشاد الديني قال لـ"مدونة الموسيقا": في كل أحياء ومساجد مدينتا "حلب" القديمة كانت تقام الحفلات والسهرات الرمضانية بعد صلاة التراويح، حيث تقام فيها موالد وأذكار ورقصات المولوية، يؤديها فنانون بملابسهم المميزة، وأذكر كيف كنت أرافق والدي لتلك السهرات التي كانت تمتد حتى فترات السحر، وبرع في تلك الفترة بالسبعينيات الشيوخ "صبري المدلل" و"حسن الحفار" و"أديب الدايخ" وغيرهم، ولازالت أحفظ الكثير مما كان يغنى مثل "على طيبة يالله نروح" و"أهلاً رمضان شهر الخير والأحسان" وكنا نتابع بث الإذاعة السورية في فترات الإفطار والسحر مع المسلسلات الخاصة بهذه المناسبة قبل أن يواكب التلفزيون السوري فعاليات هذا الشهر الكريم.

مما تقدم نجد أن بلدنا "سورية" وعاصمتها "دمشق" مع باقي المدن الأخرى كانت في طليعة من غنى الإنشاد الديني منذ عقود عديدة ماضية، عكس الغناء الرمضاني الذي تفوق فيه الأشقاء المصريون وسبقونا فيه بأشواط طويلة.