في شهر رمضان المبارك تهف نسائم ذكر ذي الصوت الشجي، أمير المنشدين "تـوفيق المنجد" الذي توفي بتاريخ ٣٠ تشرين الثاني ١٩٩٨ عن عمرٍ ناهز 108 سنوات بعد عطاء دام أكثر من ٨٠ عاماً.
نَشأَتُهُ
المنشد "عمر أبو حرب" نجل المنشد "عبد الوهاب أبو حرب" الذي رافق "توفيق المنجد" في كل حفلاته يحدثنا عنه بقوله: «ولد الراحل "توفيق المنجد" بدمشق حي "القيمرية" كان والده "أحمد فريد كركوتلي" يعمل بحرفة التنجيد وكان صوته جميلاً، ومن هنا أتى لقبه المنجد، وبدأ حياته الفنية مطرباً بارعاً وسُمّي "بلبل الشام" نظراً لصوته الجميل، كان يحيي الحفلات في "دمشق" وخارجها نظراً لصوته العذب وسكنه المجاور للجامع الأموي وأصبح مؤذناً مع جدي "محمد نعيم أبو حرب"».
فِرقَةُ الشُّبَّانِ الحَدِيثَةِ
ويتابع المنشد "عمر أبو حرب": «في عام 1944 شكل والدي المرحوم "عبد الوهاب أبو حرب" مع رفاقه فرقة إنشاد خاصة سميت باسم فرقة "الشبان الحديثة" وتتألف من "عارف الصباغ"، "رشيد شيخ أوغلي"، "محمود الشيخ"، "أبو شاكر الخيمي" بإشراف جدي "محمد نعيم أبو حرب" و"وجيه الحلاق" وأشرف عليها الملحن المعروف "عبد العال الجرشة"، وفي إحدى الحفلات التي كان والدي يحييها وفرقته، كان "توفيق المنجد" مدعواً، وطلبوا منه المشاركة وكانت حفلة رائعة فيها الطرب والإنشاد.. وهنا بدأت رحلته وطلب منه الوالد مشاركتهم بالفرقة وبالبروفات، وانضم لها "توفيق المنجد" وبدأت الفرقة تتطور أكثر فأكثر، حيث أغنى "عبد العال الجرشة" الفرقة بألحانه المميزة وتتلمذ والدي على يده وبدأ التلحين وأخذ يعرض ألحانه على الراحل "عبد العال" وحقق خبرة ممتازة».
أَلحَانُ "عبد الوهاب أبو حرب"
وحول الموشحات يقول المنشد "عمر أبو حرب" في حديثه لـ"مدونة الموسيقا": «لحن والدي "عبد الوهاب أبو حرب" ثلاثين موشحاً من أجملها موشحات رمضان "يا فرحتي بلقاك بعد زمان" نغمة الحجاز، "رمضان تجلى وابتسم" وله لحنان الأول من مقام العجم، والثاني من مقام السيغا الذي لحنه الوالد "عبد الوهاب"، ولمناسبة عيد المولد النبوي لحن موشح "هذا ربيع أتى بالبشر يبتسم" وبمناسبة عيد الأضحى لحن موشح "يا كعبة الله الشريفة أشرقي" مقام "الصبا" وكل هذه الموشحات من كلمات الشيخ "محمد أمين كتبي" الذي كان والدي يزوره أثناء الحج ويعطيه من قصائده ويلحنها في "دمشق"، وهناك موشح توسل على نغمة زنجران وغيرها من الأعمال المشتركة مع الراحل "توفيق المنجد"».
رَابِطَةُ المُنشِدِينَ
يحدثنا المنشد "عمر أبو حرب" الذي تعلم من والده حب الموسيقا والتلحين ومحبة الإنشاد والتوسلات لله عزّ وجلّ ورافقه بالإنشاد بقوله: «شارك والدي "توفيق المنجد" في جميع حفلاته، وكان يقف خلفه مباشرة في الفرقة، وتميز والدي بحب الموسيقا والتفاعل مع اللحن والأداء بصوت رخيم شجي وأداء القرار بشكل رائع، أصبح مشرفاً على الألحان والكلمات التي يؤديها "توفيق المنجد" وكان يعتمد عليه في علم الطبقة، وكان والدي ينظم ذلك ويسمى باسم "دينامو الفرقة" ثم سمي بدينامو فرقة "رابطة المنشدين" برئاسة "توفيق منجد"، "سليمان داوود"، "حمزة شكور" التي تأسست عام 1974 بمرسوم تشريعي من السيد الرئيس "حافظ الأسد" في ذلك الوقت وكانت الفرقة الوحيدة التي تحيي الحفلات الرسمية لوزارة الأوقاف والحفلات الخاصة داخل "سورية" وخارجها، ومنها "لبنان" و"الأردن"، "مصر" "الجزائر" "فرنسا" وكانت حفلة "باريس" الأكثر تميزاً بدار الأوبرا عام 1977».
ويتابع: «بعد وفاة الملحن عبد العال الجرشة عام 1965 ووفاة جدي "نعيم أبو حرب" عام 1963 قام ملحنون جدد بتلحين موشحات للفرقة منهم "عبد السلام سفر"، "زهير منيني"، "عدنان أبو الشامات" وبعد وفاة "توفيق المنجد" عام 1998 ترأس الرابطة "سليمان داوود" رحمه الله وبعد وفاته ترأسها "حمزة شكور" وشاركه فيها والدي "عبد الوهاب أبو حرب" وبعد وفاة "حمزة شكور" توقفت الرابطة عن العمل».
إِرثٌ مُوسِيقِيٌّ خَالِدٌ
هذا الإرث الديني الموسيقي باقياً ما بقي الزمن ولن يندثر، هكذا يرى المنشد "عمر أبو حرب" ويقول: «نؤدي حتى اليوم الموشحات القديمة ونكررها في كل مناسبة، كانت الفرقة تقدم الإنشاد الديني، المدح، التوسل، والموشحات التي تناسب المناسبة الدينية وأبرز الأناشيد التي كانوا يؤدونها بالنسبة "هذا ربيع أتى بالبشر يبتسم"، "احتفالاً بليلة الميلاد"، "إلهي يا إله الكون إني أتيتك راجياً" من ألحان والدي "عبد الوهاب أبو حرب"».
تَحَدِّي المَرَضِ
يروي لنا "عمر أبو حرب" قصة مرض "توفيق المنجد" الذي أصابته وعكة صحية قلبية قبل عام من وفاته ونقل لمشفى "الشامي"، وخرج منها بعد أيام وطلب منه الأطباء عدم أداء صوت عالٍ بالإنشاد، لكنه رغم ذلك استمر بإحياء عدة حفلات أحداها في "الزبداني" منطقة "حاليا" وأدى الموشحات بإبداع كبير وكأنه لم يكن مريضاً وأخرى في "طرابلس" بلبنان وآخرها في المعهد الشرعي تخريج دفعة من الطلاب وتم تكريمه من مفتي طرابلس ومفتي لبنان وحضرها كبار العلماء بوجود مندوب عن مفتي الجمهورية الشيخ "أحمد راجح"، وشارك بحفل آخر على مسرح الحمراء بدمشق».
خُصُوصِيَّةُ "توفيق المنجد"
المنشد "عمر أبو حرب" يصف "توفيق المنجد" بالقامة الكبيرة ويقول: «مكانته كمكانة أم كلثوم، لن يخلفه الدهر، وبالنسبة للموشحات التي قدمها مع الفرقة لن تندثر أبداً لأن الكلمات واللحن المسبوك والتي يتوجها الأداء تستمر لمئات السنين، ومثاله: موشح "يا فرحتي بلقاك بعد زماني" من كلمات الشيخ "محمد أمين كتبي"، وألحان والدي "عبد الوهاب حرب" وأداء "توفيق المنجد"، وموشح "روح فؤادك قد أتى رمضان"، وموشح "جل من طهر الصائمين"».
ويتابع: «حاول كثير من المنشدين تقليد "توفيق المنجد" لكنهم لم يستطيعوا لأن صوته فيه روحانية خاصة لن تتكرر ويدخل فوراً إلى القلب، كان إنساناً متواضعاً وخلوقاً يساعد الجميع لتعلم الإنشاد وإتقانه وكان لي الشرف بأن عرفته، تميز "توفيق المنجد" بأداء الطبقة السابعة بصوته بكل سلاسة، إلى جانب الروحانية في صوته الذي يبكي الحجر، تساعده في ذلك "الحنّية" الموجودة في صوته، حصل على عدة أوسمة في مجال الإنشاد الديني، وقابل القائد الخالد "حافظ الأسد" وملك "المغرب"، والملك فاروق في "مصر"».
مَسِيرَةُ النَّجَاحِ
الشاعر الغنائي "عبد الرحمن الحلبي" يقول: «أفخر بأن صوته قد صدح يوماً من الأيّـام مع المنشد المرحوم "حمزة شكّور" بابتهال من كلمـاتي وألحـان المرحـوم "عبد السلام سفر" في إحدى حفلات التلفزيون العربي السوري عام 1996، تكنّت أسرة الراحل "توفيق بالمنجــد" لأن أجداده ووالده عملوا في هذه الحرفة وهو أيضاً عمل بها عندما كان صغيراً عند والده الذي كان مؤذناً في الجامع الأموي، كان دائماً يصطحب معه ولده "توفيق" إلى هذا المسجد العريق، ترعرع منذ صغره في هذه الأجواء الروحانيّة وعندما كبر أصبح مؤذناً وبعد ذلك رئيساً لرابطة المؤذنين في الجامع الأموي، وأثناء ذلك تعلم "توفيق المنجد" أصول الغناء وحفظ الأدوار والقدود وشكّل فرقة موسيقية مؤلفة من عود وناي وقانون وكمان ورق، ومن أسماء الذين اشتغلوا معه في هذه الفرقة "عزّو نعمان" على آلة العود، "عثمان قطرية" على القانون و"ماجد جمعة" على الإيقاع وقدّم أوّل حفلة خارج الوطن في جمهورية "مصر" في دار الأوبّرا وحضره "الملك فاروق" وكان رئيس الفرقة يومها المرحوم المايسترو "سامي الشوّا" وبعد ذلك حصد نجاحاً تلو النجاح».
رُوحَانِيَّةٌ لَا مَثِيلَ لَهَا
ويتابع "الحلبي" عن تميزه قائلاً: «بدأت نجومية "توفيق المنجّد" تسطع في عالم الإنشاد الديني عام 1948 من خلال صوته الذي تفرد به عن سواه من حيث الأداء المميّز بروحانيّته وصفائه، فعندما نسمعه تتصل الروح مباشرة ببارئها عزّ وجلّ وأيضاً كان قلبه معلّقاً بمدح النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم وكلّما أطال في مدحه كلّما ازداد هياماً به بكل حبٍّ وشغف.
وفي عام1955 قلده رئيس الجمهورية السورية آنذاك "شكري القوّتلي" وسام الاستحقاق السوري وأصبحت فرقته معتمدة من وزارة الأوقاف لإقامة الحفلات الرسمية التي تولتها إذاعة "دمشق" نقلاً عبر أثيرها وخاصة في وقت السحر بشهر رمضان المبارك إضافة إلى فرقة المرحوم شيخ المنشدين "مسلّم البيطار" وفرقة المرحوم "سعيد فرحات"».
تَسجِيلَات
إضافة إلى حفلاته سجّل "توفيق المنجد" في استديوهات إذاعة "دمشق" أجمل الابتهالات والمدائح وعشرات الأسطوانات في شركة كولومبيا في "لبنان" وأذكر بعض الأناشيد التي سجلها: يا إمام الرسل- مولاي– أشرقت- أيها المشتاق - يانبي سلام عليك - إلهي يا إله الكون، كل هذه الأناشيد سجلها مع فرقته التي كانت تضمّ السادة الأستاذ "عبد الوهاب أبو حرب" و"محمود الشيخ" و"سعيد الخيمي" و"عمر زيدان" و"بدر ديبو" و"سعيد السكّري" و"رشيد شيخ أغلي".
ويتابع "الحلبي": «تعاقبت الأعوام إلى عام 1974 حيث شُكّلت "رابطة المنشدين" بدمشق وقد ضمّت "توفيق المنجد" وفرقته وكان رئيساً للرابطة و"سليمان داوود" وفرقته و"حمزة شكّور" وفرقته وقد عملوا طوال ثلاثة عقود من الزمن في الحفلات الرسمية والخاصة ومثلوا "سورية" في الكثير من دول العالم وكانت أشهر حفلة لهم حفلة "باريس"، وما أجمل أيام رمضان المبارك عندما كنّا نستمع لهم في أول عشرٍ منه، وفي آخر أيّامه يودّعونه ويحيون ليلة القدر».
ويؤكد "الحلبي" الذي سمع جزءاً من المعلومات من المنشد "المنجد" رحمه الله، والجزء الآخر من المنشد المرحوم "حمزة شكّور" والأستاذ المرحوم "عبد الوهاب أبو حرب" أن ولادة "توفيق المنجد" كانت في عام 1890 بعد أن سمع منه شخصياً هذه المعلومة وقال له إنه مسجّـل على الهويّة بتاريخ آخر غير صحيح هو عام 1910، ويختم حديثه عنه لـ"مدونة الموسيقا" بالأبيات التالية:
ذِكـراكَ تـوفـيـــقَ الـمـُنـجـّــدْ مَلكـَتْ فـؤادِيَ حيــنَ تُنشـِـدْ
صَــوتٌ دِمَـشـقـــيٌّ أصـيْــــلٌ قَد مَضــــى في الدينِ يُرشِـــدْ
إذ كـانَ نَـجـمـــاً ســـاطـِعــاَ في كُـلّ حَـفــلٍ أو بِـمـَولِـدْ
هـُـوَ كُـلّــمـــا نــادى الإلــَـــهَ، أحاطَهُ في كـّـل مـَسجِـدْ
جُــمــهــُـــورُهُ يـا إخـــوَتــي لَـم نُحصِــهِ مَـهـمـــا نُـعــدِّدْ
لـمـّـا بِـشـعـــرِيَ قـَـد تـَغـّـنــّــــى.. الشِعـرُ صـارَ لَهُ مـُغَــرِّدْ