تألقت مدينة "حلب" بوجودها الفني والتراثي في الوطن العربي كعاصمة وحاضنة للقدود والموشحات ورقصة السماح، ولا غرابة إن قلنا واعترفنا بفضل الإنشاد الديني في نهضتها وشهرتها الفنية.

يقول الباحث الأديب الموسيقي "عبد الفتاح قلعة جي" في بحثه المنشور في مجلة "الشهباء" الثقافية: "يأخذ الموروث الموسيقي والغنائي الديني أهمية في لوحة الحضارة العربية والإسلامية من خلال ثلاثة أبعاد هي: البعد الزماني، حيث يمتد لعهود تاريخية بعيدة، وبُعدٌ مكانيّ متنقل في جغرافيا الوطن العربي مثل قصائد ابن الفارض في "مصر" أو "عبد الغني النابلسي الدمشقي" ولا تحتاج تلك الفنون لجوازات سفر للمرور فهي تنشد بألحان متشابهة، والبعد الآخر "أنثروبولوجي" فهو يعبر بموسيقاه وألحانه عن مشاعر الإنسان وحاجته للإبداع والاحتفال تجاه أموره الحياتية والفنية.

"حَلَب" مَركَزُ الفَنِّ

وإذا عدنا إلى أقدم العصور الحلبية بمملكة "يحماض" العمّورية وكانت "حلب" عاصمتها، نجد أن الموسيقا والغناء كانا جزءاً من المنهاج التربوي والديني في المعابد من خلال الابتهال والتضرع إلى الله للرجاء بتلبية حاجات الناس، ويتم ذلك من خلال توظيف كلمات وألحان مختارة بغاية الدقة مع الصوت الجميل.

1- المطرب صبري مدلل مع شيوخ الطرب الحلبي وهو في مقتبل العمر

وكان الاهتمام بالغناء الديني وتدريب الأصوات الجميلة وصقلها يسير جنباً إلى جنب الغناء الدنيوي، حيث كانت أجواق المغنين تؤدي الأناشيد الدينية في احتفالات أعياد النصر والمناسبات الوطنية التي شهدها معبد "أكروبول" مكان "قلعة حلب" الحالي، وكذلك الحارات كانت تسهر على الموسيقا وأصوات المطربين حتى الصباح في الأعراس الشعبية والمناسبات الدينية، وقد استمر ذلك في عصر الديانات التوحيدية في المساجد والكنائس معاً.

واحتفظت "حلب" بمركزها الديني والفني حيث كان الغناء الديني يسير متوازياً مع الغناء المدني التطريبي إذ لا يخلو عرس من المدائح النبوية التي كانت تقام بالجامع الكبير كمركز للإنشاد والتراتيل، وبقيت "حلب" في العصر العباسي حاضرة للغناء الديني، وعمرت مساجدها بمجالس الإنشاد، وازدهرت في عصر سيف الدولة، وفيها قدم "أبو الفرج الأصفهاني" كتابه الشهير "الأغاني" وهو كتاب حافل بالرموز الموسيقية والأصوات والنغمات.

2- الباحث عبد الفتاح قلعة جي

استمر ذات الاهتمام في العصر الأيوبي، وبدأ انتشار الطرق الصوفية فيها وما تحمله من فنون الشعر الروحي ونشط الأمراء في إنشاء الزاويا والتكايا.

حيث كان الملوك يطلبون الفرق الموسيقية الحلبية إلى بلاطهم، ويقال إن "قانصوه الغوري" سلطان المماليك في "مصر والشام" يطلب الفنان الحلبي "محمد الآلاتي" مع فرقته الموسيقية للغناء، حيث أعجب به كثيراً. وأخذت "حلب" تعيش عصرها الذهبي بالنسبة للموسيقا والغناء الديني والقدود والموشحات، وبرزت أسماء مثل محمد بن شيخة ومحمد بن كوجك علي الخوجكي، وفي القرن التاسع عشر برزت أسماء أحمد عقيل وصالح جذبة ومصطفى البشنك، حيث كان الأخير نابغة في الموشحات والقدود وأضاف إلى الإيقاعات المعروفة أحد عشر إيقاعاً جديداً، ولحن أكثر من مئتي موشح أغلبها متداول حتى الآن، وغيرهم كثر.

3- كتاب خطط الشام لمحمد كرد علي

شُعَرَاءُ القُدُودِ وَالمُوَشَّحَاتِ

4- الراحل الشيخ صبري مدلل

يقول الأديب والمؤرخ "محمد كرد علي" في كتابه خطط الشام عندما سأل صديقه الشيخ "كامل الغزي" عن المغنين والموسيقيين فرد عليه: إن "حلب" لم تخلُ في كل أوقاتها من المغنين الذين يعدون بالمئات وإن المستشرقين حين كان يصعب عليهم فهم شيء في الموسيقا يلجؤون إلى محترفيها في "حلب" وكانوا يعودون مزودين بالعلوم والفهم الموسيقي والتواشيح والقصائد والقدود، حيث اعتبرت تلك الأنواع الموسيقية من أهم معالم المدينة، والقد يبنى على قد أغنية شعبية شائعة ومن هنا جاء اسم القد كما وصفه الشيخ الراحل "نديم الدرويش" هو موشح خفيف الوزن وأسرع إيقاعاً.

أما الشكل الفني الشعري له فهو كالموشح مؤلف من بدنية وخانة وغطاء وخلاصة الأمر أن القد الحلبي هو حلول لحن قديم شائع في نص جديد.

5- الراحل صباح فخري

وفي العهد الإسلامي احتفظت "حلب" بمركزها الديني والفني، حيث انتشرت فيها التكايا والزوايا والأذكار والمعاهد الموسيقية والمنشدون والأوزان والأنغام وضروب الإنشاد، فكان لابد من تغذية هذه البرامج بالنصوص والألحان، وبالمقابل فإن مطربي الحفلات الفرايحية المدنية وشعراء الأغنية يعمدون إلى وضع قوالب لفظية غزلية تغنى في الأفراح والمناسبات، وهكذا انتشرت القدود الحلبية الدينية انتشاراً واسعاً ولا أحد يستطيع الجزم أيهما أسبق الإنشاد الديني أم الموشحات والقدود.

أَمثِلَةٌ حَاضِرَةٌ

أغنية يارب يا عالي شوف عبدك، ربيتك زغيرون حسن، أنا السبب.. أغلبها باللهجة الرشيقة الخفيفة وعادة ما تنظم مجموعة من القدود حسب مقام واحد وتغنى دفعة واحدة فتعطي الجو الاحتفالي ألواناً من البهجة والسرور، وهذه القدود تغنى في وصلات متتالية مع بعضها وكلها مشتقة من تواشيح دينية، ولدينا هذا القد من كلمات وألحان "صالح عبد الحي":

ويا ليلة الوصل عودي لنا.. لأن الحبيب علينا رضي

وفي الشطر الأخير

ويا رب صلِ على المصطفى.. صلاة تدوم ولا تنقضي.

والقد الحلبي الموشح يكون مبنياً على نظام الموشح من حيث الشكل الفني، بعضه مكتوب باللهجة الشعبية وآخر بالفصحى، مثل ما نظمه "أمين الجندي" من مقام البيات:

تحت هودجها وتعالجنا.. صار سحب سيوف يا ويل حالي

ياويل ياويل ياويل حالي أخدوا حبي وراحوا شمالي.

وجاء على قد اللحن الديني للإمام "عبد الرحمن البرعي":

يا أمام الرسل يا سندي.. أنت باب الله معتمدي

ففي دنياي وآخرتي

يا رسول الله خذ بيدي.

ومن أكثر الشعراء الذين نظموا موشحات وقدوداً شائعة الشاعر "أمين الجندي" وأهله هاجروا من مدينة "المعرة" إلى مدينة "حمص" واستقر في نهاية حياته في مدينة "حلب" حيث استفاد كثيراً من التراث الحلبي وصاغ على أعاريضها وألحانها وقدودها عدة موشحات

مثل:

أقمار فوق الأغصان.. تزهو بالحسن المنصان.

ويقال إن أكثر من ١٥٠ أغنية شعبية كانت متداولة في القرن التاسع عشر نظم "الجندي" على ألحانها قدوداً وموشحات، مثل هذا القد من مقام الصبا:

ماني يا حبيّب ماني.. سلامة قلبك يا غزالي

وأيضاً هناك الشاعر "يوسف القرلقلي" و"عبد الغني النابلسي" الدمشقي و"أبو الهدى الصيادي" و"أبو بكر الهلالي" و"أبو الوفا الرفاعي" و"محمد النشار" ولدى "حروج الراعي" القد الشهير الذي غناه الراحل "صباح فخري":

"وبقلبي حسرة ونظرة يا أم المحبوب

تركتيلي عقلي ولبي دايماً مسلوب

شفته مرة بداره.. حلّ زراره

لما لاحت أنواره شِفيت القلوب.

وهكذا فرضت مدينة "حلب" نفسها عبر الأزمان والتاريخ بمكانتها الموسيقية والفنية كعاصمة للطرب والقدود والموشحات والتواشيح الدينية بملحنيها ومطربيها وشيوخها وشعرائها، لتبقى مدرسة ومنارة تنهل من معارفها وعلومها الأجيال القادمة لسنوات وعهود طويلة.