هو واحد من أشهر أعلام الفن والتلحين في الغناء العربي، عمل على تطوير القوالب الغنائية الكلاسيكية للموسيقا الشرقية، تميز بحس موسيقي مرهف جعله مرجعاً مهماً للفن والقدود والموشحات في الحقبة التي ازدهر فيها الفن في أوساط مدينته "حلب" التي ولد وعاش ومات فيها، ترك في أرشيفه كنزاً فنياً كبيراً في شتى العلوم الموسيقية، أنه عبقري الموسيقا والغناء العربي "عمر البطش".

وِلَادَةُ نَجمٍ فَنِّيٍّ كَبِيرٍ

ولد الفنان "عمر البطش" في عام ١٨٨٥ في "حي الكلاسة" دخل "الكتاب" لتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، لازم والده لتعلم حرفة البناء وحرق الأحجار لحرق الكلس، وظهرت ميوله للفن منذ صغره فكان يتردد على حلقات الذكر، وقد لمس خاله الفنان "بكري القصير" تلك الموهبة فكفله بالرعاية الفنية، وكان يصطحبه إلى الزاويا والتكايا التي صقلت أصوات شيوخ الطرب في "حلب" مثل "أحمد الشعار" و"أحمد مشهدي" و"أحمد عقيل" والشيخ "صالح جذبة"، تعلق "البطش" بالغناء والموسيقا وحضور المجالس والزوايا والطرق الصوفية التي كانت ملتقى كبار الفنانين الذين انتبهو لجمال صوته فأخذ عنهم غناء الموشحات والمدائح النبوية وأصول العزف على العود وآلات والإيقاع إلى أن أصبح مميزاً في الفن والموسيقا، ليتجه بعدها للتعمق أكثر بدارسة فن الموشحات وتطوير رقصة السماح وكذلك تطوير بعض طرق التلحين، التحق في عام ١٩٠٥ بالخدمة العسكرية في "دمشق" وكان يعزف ضمن الفرقة الموسيقية العسكرية، وهناك تعلم تدوين "النوتة" وعاد إلى مدينة "حلب" مسقط رأسه للعمل كضابط إيقاع في الفرق الموسيقية.

رِحلَةُ "بَغدَاد"

سافر في عام ١٩١٢ برفقة الشيح "علي الدرويش" إلى مدينة "بغداد" ومنها إلى "المحمرة" حيث أقاموا هناك مدة سنتين في قصر أميرها "خزعل" ليغنوا له، وعاد من جديد إلى مدينة "حلب" محملاً بخبرة موسيقية بعد اطلاعه على ألوان أخرى من الموسيقا الشرقية في "عربستان".

1- الموسيقي الراحل عمر البطش

وتابع من جديد مسيرة علومه في الإبداع والتلحين حتى استدعي إلى الجندية مرة ثانية إبان الحرب العالمية الأولى وكانت خدمته في "دمشق" في الفرقة الموسيقية العسكرية الخاصة بالوالي العثماني "جمال باشا"، حيث استطاع "البطش" بموسيقاه أن يؤثر في النفوس وكبار الموسيقين، وكان من نتاج ذلك إضافة لمسات جديدة على رقصة السماح.

خُطوَةٌ جَدِيدَةٌ

وصل به الحال في بعض مراحل حياته إلى إعلانه اعتزال الفن والعودة لحلقات الذكر والمجالس الصوفية فقط، وحصر فنه في تدريس الموشحات وأصول رقص السماح، مع ابتكار وصلات مشبكة من رقص السماح من مقامات الراست والحجاز والبيات على أوزان المحجر والمربع والمدور والمخمس والسماعي الثقيل والدارج ولم يسبق لأحد من أعلام رقص السماح أن ابتكر مثل هذه الوصلات البديعة، حتى أصبح من أشهر المختصين في هذا المجال، وبذلك استطاع تحرير الرقص من حالتها التقليدية التي كانت تظهر بها على المسارح أمام الجمهور، ومبتكر رقصة السماح هو الشيخ "عقيل المبنجي" وقام بعده الشيخ "البطش" بتطويرها بدرجات عالية من الرشاقة والكمال ونقل تعليمها فيما بعد لطالبات معهد دوحة الأدب وجامعة "دمشق" على نغمة "املأ لي الأقداح" وواجه هذا الحفل الكثير من النقد في الصحف من ذوي العقلية المحافظة، ومع الوقت أصبحت هذه الأمسيات مألوفة للمشاهدين والمستمعين حتى أصبحت تقليداً سنوياً.

2- صورة أرشيفية

العَمَلُ فِي إِذَاعَةِ حَلَب

3- الباحث عبد الفتاح قلعة جي

في عام ١٩٤٨ دعاه مدير إذاعة "حلب" "فؤاد رجائي" لتدريب عدة مطربين شباب، وفي منتصف الأربعينيات أصيب بمرض في عينه وخشي من فقدان بصره فجاد بأروع موشح من ألحانه من نغمة النهوند ويتألف من ثلاثة أوزان قال فيها:

قلت لما غاب عني... نور مرآك المصون

4- الناقد الموسيقي الراحل صميم الشريف

شفّني والله سقمٌ... فيه قد ذُقت المنون

وعيوني من نحيبي... جارياتٍ كالعيون

وجفوني ما كفاها... ما جرى حتى جفوني

هام قلبي زاد وجدي... فمتى وصلك يكون

غاب عن عيني ضياها... يا قمر داوي العيون

وفي هذه القصيدة والمقطع الثالث من وزن الداور ويبدأ من سطر "يا قمر داري العيون" وكثيراً ما كان يعدل في كلمات المقطع الأخير أثناء الغناء مثل "غاب عني صباها... يا قمر داري العيون".

"عبد الوهاب" في "حلب"

زار "محمد عبد الوهاب" "سورية" عام ١٩٣٢ فأحيا حفلة في "دمشق" وتابع مسيرته إلى مدينة "حلب" وفوجئ في موعد الحفلة الأولى بحضور قلة قليلة، فاضطر أن يغني والدهشة تغمره وفيها أجاد وأبدع، وبعكس الحفلة الأولى غصت القاعة بالجماهير بالحفلة الثانية، وعندما سأل عن السبب في التباين في الحضور الجماهيري بين الحفلتين قيل له في المرة الأولى كنت أمام امتحان شيوخ الطرب والسميعة، وفي الثانية كانت تأكيد علوّ كعبك وفنك كمطرب وفنان قدير، ثم دعي لقضاء سهرة فنية بحضور الكبار أمثال "علي الدرويش" و"عمر البطش"، واستمع "عبد الوهاب" إلى وصلات وموشحات وقدود، وطلب من الحضور أن يُسمعوه موشحات من نغمة السيكا من دون نغمة الهزام.

ومع أن ذلك غير ممكن لكن الشيخ "البطش" وعده بتلبية طلبه، ودهش الشيخ "علي الدرويش" من وعد "البطش"، وبعد انصراف الحاضرين من السهرة دار نقاش طويل بين "عبد الوهاب" و"البطش"، وأكد له "البطش" وهو مبتسم أنه سيضع الموشحات المطلوبة بنفسه، وعكف طوال الليل على تحقيق طلب "عبد الوهاب" حتى أنهى تلحين عدد من الموشحات من مقام السيكا من دون مخالطة مقام الهزام، ثم استدعى جماعة المنشدين وقام بتحفيظهم موشح "رمى قلبي" و"يا معير الغصن" و"رشا أحور" استمع لهذه الموشحات "عبد الوهاب" مبهوراً ولعل لقاء "البطش" مع "عبد الوهاب" كان حافزاً للعودة للحياة الفنية، تعرف على الشاعر "فخري البارودي" وصارت بينهما صداقة عميقة وغنى أمامه موشحة "سيد درويش" (يا شادي الألحان أسمعنا رنة العيدان.. هات يا فنان أسمعنا نغمة الكردان)، فانتشى البارودي وشهد له بالتفوق والباع الفني والموسيقي ولحن له قصيدة "يمر عجباً...ولا يؤدي السلام" وقصيدة "وإن طال جفاك يا جميل" وغنى أمامه "موشح لما بدا يتثنى" للملحن المصري "محمد المسلوب".

وفي عام ١٩٤٧ قام "فخري البارودي" بتأسيس المعهد الموسيقي وكان تابعاً لإذاعة "دمشق" فاستدعى "عمر البطش" لتدريس الموشحات ورقصة السماح" وتخرجت على يديه مجموعة من الموسيقيين المختصين بتلحين الموشحات ورقصات السماح منهم "زهير منيني" و"عمر العقاد" و"عدنان أيلوش" و"بهجت حسان" و"عدنان أبو الشامات".

رَوَائِعُ الأَلحَانٍ

قدم "عمر البطش" ما يقارب الـ١٣٠ لحناً من بينها ٨٠ موشحاً مثل "يا ذا القوام السمهري"، "يا بهجة الروح"، "يا ناعس الأجفان"، "سبحان من صورك"، وتوفي عام ١٩٥٠ بعد أن كتب الموشح الذي أشرنا اليه سابقاً "غاب عن عيني ضياها يا قمر داري العيون" بسبب فقدانه نعمة البصر.

آراءٌ فَنِّيَّةٌ

الباحث الموسيقي "عبد الفتاح قلعة جي" قال: ساهم "عمر البطش" في إحياء التراث والمحافظة عليه من خلال تلحينه لعشرات الموشحات التي أغنى المكتبة الموسيقية بها، حيث بلغ إنتاجه الفني أكثر من ١٣٤ موشحاً، ومن مختلف النغمات والأوزان، وقد تم تدوين ٨٠ موشحاً، ويعتبر ممن أولو التراث الموسيقي في "سورية" اهتماماً بالغاً، ولحّن أجمل الموشحات ومن أشهرها "يمر عجباً" وعمل على تطوير رقصة السماح بتفوق لا مثيل له.

وكان قال عنه الباحث الراحل "صميم الشريف": ولد الفنان "عمر البطش" في مدينة "حلب" عام ١٨٨٥ من أسرة ذات جذور فنية، لكنه لم يمارس الفن إلا متأخراً، فقد امتهن في شبابه حرفة البناء، وكان يتردد خلال أوقات فراغه على الزاويا مع تعلم الطرق الصوفية والشاذلية، ويشارك في الأذكار، تعلم فن الموشحات والمقامات على أيدي "صالح جذبة" و"أحمد عقيل" و"أحمد الشعار" ثم توجه نحو تطوير رقصة السماح حتى برع فيها، وكذلك تعلم العزف على آلة العود والضرب على الإيقاعات، وتدين له الموسيقا العربية بالفضل في عبقريته بفن الموشحات والقدود والألحان.