قدم الباحث الموسيقي وعازف الكمان الملقب بملك الكمان "توفيق الصباغ" بحثاً علمياً ضمن فعاليات المؤتمر الأول عام 1932 الذي عقد في القاهرة وحمل عنوان "السلم الموسيقي المعدل" وتضمن تفاصيل علمية دقيقة، وجرى حوله حوارات عديدة.

حيث يذكر الموسيقي الأستاذ "يحيى رجب" مدير المعهد المتوسط للموسيقا بالسويداء والعازف على آلات شرقية متنوعة وأهمها آلة العود بالقول: تبقى الموسيقا واحدة من التراثيات العربية الأصيلة التي تعبر عن ثقافة الشعوب العربية وتاريخها، من خلال الألحان الجميلة التي قدمها العمالقة، في زمن الإبداع الموسيقي حين ساهموا في تجديد وتطوير الموسيقا العربية؛ لم يكن هذا التجديد والإبداع بمعزلٍ عن البحث النظري والعلمي في الموسيقا العربية الحديثة، حيث ولدت بذور نظريات ودراسات وأبحاث دفعت الباحثين إلى التعمق في النظريات الموسيقية مثل نظرية (الأرباع المتساوية)، وسلمها الموسيقي الذي سُمي (السلم المعدل)، أو مثل أبحاث المستشرقين في الموسيقا العربية، أو مثل أبحاث الأتراك في سلالمهم، ومقاماتهم، وإيقاعاتهم.

حيث يذكر الأستاذ "عدنان بن ذريل" في كتابه "الموسيقا في سورية" أنه من المعلوم إن الموسيقا العربية كانت تتناقل عن طريق الحفظ والسماع ولاسيما فنون التلحين، إلى أن بدأ التدوين الحديث بالنوتة الموسيقية واستخدام الهارموني من خلال الآلات الموسيقية الجديدة التي أدخلت عليها الأرباع الموسيقية.

1- مراسل مدونة الموسيقا مع الباحث الموسيقي الراحل صميم الشريف وحديث عن ملك الكمان توفيق الصباغ

كان الباحثون العرب في مصر يأخذون بحساب الأرباع المعدلة، وسلمها المعدل، ويجعلونها أساساً للدراسة، والبحث والمقارنة... وكانوا يقولون بالذات بسلمٍ موسيقي عربي مؤلف من أربعة وعشرين جزءاً صوتياً.. في حين كان الباحثون العرب في سورية يحاولون ضبط السلم العربي على حساب الكومات، والليمات، وهو الحساب الفيثاغوري، والعربي المتوارث، عدا الشيخ علي درويش الذي عرّبَ سلّم الأتراك المجنب بنوعيه الكبير والصغير، ومن هنا ظهرت الاختلافات في الحساب، وتشعب الرأي حول موضوع السلم الموسيقي العربي.. كما ظهرت تباينات في تحديد درجاته في السيكاه، والعراق، والكواشت، البوسليك وغيرها.

لقد آثر مؤتمر عام 1932 الاقتضاب على بحث السلم الموسيقي العربي، وبحث المقامات، والإيقاعات العربية الموجودة فعلاً، ولكن المؤتمر كشف عن اتجاهات صريحة في إيثار حساب الأرباع المعدلة؛ وقد سبق للموسيقيين العرب أن ناقشوا موضوع السلم الموسيقي العربي ودرجاته في معهد فؤاد الأول عامي 1929- 1930 على أيدي أعلام مثل: نجيب نحاس، أحمد أمين الديك، منصور عوض، مصطفى رضا، صفر علي، محمد العقاد، والأساتذة كانتوني، وكوستالي، وأرمناك الخبراء في المعهد. ‏

2- صورة أرشيفية للراحل توفيق الصباغ ملك الكمان

والجدير ذكره أن الباحث والناقد الموسيقي "صميم الشريف" أوضح في كتابه "الأغنية العربية" أن لجنة عام 1930 قررت الموافقة على حساب السلم المعدل، ورأت أن الأرقام التي حصلت عليها في تجاربها عام1930 مطابقة تماماً لأرقام المتوالية الهندسية التنازلية ذات (24) ربعاً متساوياً، قائماً على قاعدة جذر الرابع والعشرين، هذا وقد وقع على قرار السلم المعدل كل من: محمد العقاد، وسامي الشوا، ومحمود زكي، وادوار فارس، ونجيب نحاس، وأميل عريان، ومصطفى العقاد، وصفر علي، ومصطفى رضا. والمشاركون في مؤتمر عام 1932 للموسيقا العربية درسوا بدقة موضوع السلم الموسيقي العربي وحرصوا بدراساتهم على معرفة الأبعاد السبعة التي يتكون منها السلم الأساسي.. ثم إثبات قيمة الأربعة والعشرين صوتاً التي يتكون منها السلم العام للموسيقا العربية، وقد شارك في هذا المؤتمر من سورية كل من شفيق شبيب، وأحمد الأوبري، وإلياس دباي، ونصوح كيلاني، وعثمان قطرية، وفؤاد قلطقجي، ثم لحق بركبهم سليم حفني، وتوفيق الصباغ، ودكتور سالم، وإبراهيم سامي، وحمدي بابيل.

أما الموسيقي القدير الشيخ علي درويش عمل مع صديقه البارون "دير لنجر" في المقامات والإيقاعات العربية، وقدم بمفرده أبحاثاً عن مقامات وإيقاعات حلبية بتكليف من المؤتمرين، حيث كان يقول بالسلم الموسيقي القائم على المجنب، مبيناً تأثره بأساتذته الأتراك في دار الألحان، وكذلك الموسيقي الكبير توفيق الصباغ عمل بدوره على حساب الكومات الفيثاغوري، والدقائق اليونانية.

3- الموسيقي سلمان البدعيش

هذا واستمر السوريون بأبحاثهم برفض السلم المعدل، وترسيخ إرثهم العربي، بينما بقي المصريون يؤيدون السلم المعدل وحساباته، أما اليوم فالسلم المعدل مؤيد بالإجماع.. وحقاً إذا حصرنا الرصيد العلمي والفني المدون والموثق فإننا نرى أن الباحثين السوريين والمصريين والعرب عموماً وكذلك المستشرقون في الموسيقا العربية، لم يحصلوا منذ أوائل القرن العشرين وحتى تاريخه على مرجعٍ دقيقٍ يعادل مدونات مؤتمر عام 1932 في القاهرة. ‏

ويشير الموسيقي "سلمان البدعيش" أن العمالقة استطاعوا تقديم الموسيقا التي تضمنت من خلالها الألحان الكبيرة والأنغام الموسيقية العميقة المنسجمة مع الحضارة والتاريخ والثقافة العربية، لأنها تعطي مؤشراً حقيقياً على عظمة الفكر العربي وثقافته من جهة، ومن جهة أخرى تنم عن الموهبة الفطرية عند عمالقة الموسيقا، ولكنها بقيت ضمن الخريطة التي رسمها الموسيقيون في مؤتمر عام 1932 ولم يستطيعوا تطوير وتحديث ما حاولوا الاتفاق عليه في المؤتمر، إلى أن السائد الآن هو السلم العربي المعدل، وبقي العديد من الباحثين السوريين يبحثون في نظريات الأرباع والإيقاعات والمقامات، وتدرس في المعاهد التي أحدثت في سورية على أيدي كبار المثقفين كالمعهد الذي أحدثه الزعيم الوطني فخري البارودي، والذي تخرج منه كبار الموسيقيين السوريين هذه الأيام أمثال الفنان الكبير صباح فخري وأمين الخياط وعدنان أبو الشامات وسليم سروة وغيرهم.

4- الموسيقي مدير معهد المتوسط للموسيقا يحيى رجب

والسؤال هل استطاع عقد المهرجانات والمؤتمرات الموسيقية في البلدان العربية بين الحين والآخر حماية الموسيقا العربية، كما فعل العمالقة من الباحثين وموسيقيين ما قبل منتصف القرن الماضي في مؤتمرهم عام 1932؟

الجدير بالذكر أن تلك الأبحاث هي الإجراءات التي اتخذها العمالقة الموسيقيون في القرن الماضي نهجاً، ونتيجة لتشريق بعض الآلات الغربية اعتمدوا اليوم على السلم غير المعدل وهو سلم الموسيقي المستخدم اليوم في ظل انتشار الآلات الغربية المشرقة، إذ لم تستطع وزارات الثقافة والمعاهد الموسيقية في البلدان العربية من اتخاذ إجراءات لحماية وتطوير الموسيقا العربية، وما زلنا ننتظر الإبداع بشكله البحثي العلمي... فتحية لروح الموسيقي المبدع توفيق الصباغ الملقب بـ"ملك الكمان" في المؤتمر الأول للموسيقا العربية بالقاهرة قبل ما ينوف على تسعة عقود صاحب بحث السلم الموسيقي المعدل.

5- غلاف كتاب الموسيقى في سورية لمؤلفه عدنان بن ذريل

المراجع:

6- غلاف كتاب الأغنية العربية لمؤلفه الراحل صميم الشريف

[1]- الأغنية العربية، صميم الشريف، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1981.

[2]- الموسيقى في سورية البحث الموسيقى والفنون الموسيقية 1887-1987، عدنان بن ذريل، دار طلاس، الطبعة الأولى 1969، الطبعة الثانية 1989.