بدأ مشواره مع العود في عمر التاسعة (حوالي سنة 1993)، كان يحلمُ بأن يصبحَ عازفاً مميزاً مثل والده حسين السبسبي، تعلّم حرفة صناعة العود من عمّه في ورشته بمدينة حماة، وفاز في مسابقات العزف على العود على مستوى القطر، واستطاع أن يكرّس اسمه كواحد من أهم عازفي العود العرب.
"مدونة الموسيقا" التقت الفنان "محمد السبسبي" وكان الحديث عن رحلته مع العود، يقول: «كنتُ أدخل إلى ورشة عمّي في مدينة حماة، وأصنع ما يخطر في بالي من ألعاب خشبية بما ألتقطه من قطع مهملة ونشارة خشب وغِراء، وحين شاهد عمّي ما أصنع لم يكتفِ بألعاب الطفولة هذه، إنما علمني المهنة وأسرارها، وفي حماة درستُ في المعهد العربي على يد أستاذي حسان سكاف رحمه الله، تخرجت بعد أربع سنين، ثم في تلك المرحلة شاركت بمسابقات على مستوى القطر وفزت فيها كلها، حتى عمر الثامنة عشرة انتقلنا إلى دمشق، وبقيت ملازماً للوالد لأتعلم منه ومن بصمته في العزف».
أَوَّلُ "أَلبُومٍ"!
في عمر الرابعة والعشرين كنت قد حفظت تقريباً كل أعمال منير بشير -يكمل السبسبي حديثه- وأعمال الراحل محمد عبد الكريم من تانغو النهاوند وفالس حياتي وأيامي في الأندلس وغيرها من ألحان مخصصة لآلة العود من أعمال العمالقة شريف محي الدين حيدر، واللبناني سيمون شاهين، والعظيم محمد عبد الوهاب الذي تعلمت من تقاسيمه كيفية الانتقالات العظيمة وكيف يمكن للخيال والفكر أن يساعدا الفنان في تطوير تقنيات عزفه ومضامينها، لاحقاً فكرت أن أتركَ بصمة خاصة بي بعيداً عن التقليد أو تقمّص أساليب عزف الآخرين، لذلك وفي عام 2008 كان أول ألبوم (CD) بعنوان "همسات شامية" فيه ست مقطوعات تقاسيم على المقامات، بالإضافة إلى مقطوعات من قالب "السماعي" المعروف بأنه يجب أن يحتوي على أربع خانات: خانة أولى/ تسليم، خانة ثانية، خانة ثالثة، والرابعة مختلفة عن إيقاع السماعي (عشرة/ ثمانية).. وكان للألبوم صدىً حول العالم من كثير من الفنانين الذين قالوا بكل صراحة إنه من أهم التجارب في مجاله، إذ إنني أُعَدُّ من الجيل الثالث من حيث العمر بين العازفين في الوطن العربي.
ضَيَاعٌ فِي الهَوِيَّةِ!
نسأله: لكن ما الذي تقصده بـ "بصمة خاصة بمحمد السبسبي"؟ فيوضّح لنا بقوله: «اليوم نعاني من ضياع في الهوية الموسيقية، لم نعد نجد هوية موسيقية للعازف نعرف من خلالها أن هذا هو فلان مَنْ نستمع إليه الآن فيما لو كنا لا نرى وجهه، فهذا يعزف لحناً تركياً مهجّناً على نمط غربي، وآخر يقلد النمط المعاصر الدارج، لذلك كانت فكرةُ (السي دي) الخاص هي أن أعزف بأسلوب يحمل الطابع الشرقي/ العربي في التقاسيم على آلة العود، مع التنويع من مقام إلى مقام، والرجوع إلى المقام الأساس بشكل علمي.. وقد قدّم الفنان لطفي بوشناق شهادة مهمة فيه، وكذلك قيّمَهُ عالياً الفنانُ نصير شمة، وفي الإمارات والسعودية وجدَ صدىً طيّباً واسعاً».
التَّدَاوِي بِالمُوسِيقَا!
«.. ثم مضيتُ في إقامة حفلات "سولو/ عزف منفرد"، بدايةً في مهرجان بعلبك عام 2010، وللأسف في 2011 بدأت الحرب وانتهت النشاطات الفنية في سورية، فركزت اهتمامي على صناعة العود في ورشتنا أنا والوالد».
يتابع السبسي حكايته ويغصّ بدمعة: «في عام 2013 تعرض بيتي للقذائف والصواريخ، فأصبتُ إصابة شديدة طرحتني شهراً كاملاً في غيبوبة تامة، وحين أفقت وجدت جسدي قد تعرض لعطَبٍ قاسٍ بقيتُ إثره سنةً كاملة لا أستطيع المشي، ومن ثم خمس سنين من رحلة علاج طويلة، وكان العود هو رفيقي الوحيد في لحظات ألمي الجسدي والنفسي القاسية... من هنا وُلدت مقطوعة "قبل النسيم"، قدمتها للمستمعين وللعازفين حول العالم والذين أجمعوا على روعتها وحاولوا أن يعزفوها في أمسياتهم ومجالسهم.
أجريتُ 32 عملاً جراحيّاً لأعاود المشي، وخلالها كنت أعزف وأصنع وأؤلف مقطوعاتي الموسيقية، ومنها: "ياسمين"، و"سماعي النهوند"، و"شوق" على اسم ابنتي الأولى، ومقطوعة "روح" وجميعها كانت تأخذ وقتاً طويلاً حتى تكتمل، مازجاً فيها بين الفكر الموسيقي واللحظة الروحية لانبثاق المقطوعة في روحي/ ذهني».
مُفَاجَأَةٌ مُوسِيقِيَّةٌ
العازف محمد السبسبي لديه روحٌ جبارة على الألم وشغفٌ كبيرٌ بما يفعل لدرجة أن هذا الشغف يخلق في داخله رغبة ملحّة في التحدّي.
يُخبرنا عن حدثٍ مهم في سيرته الفنية، ويقول: «ورغم الحصار الشامل السياسي والثقافي على دمشق في عام 2015 قرّرت أن أكسرَ هذا الحصار بحفلة فاجأت الجميع، لم يصدقوا أنني سأقوم بها فعلاً نتيجة وجود جهاز تثبيت في رِجلي، وبسبب الظروف القاسية كلها.. اقترحتُ الفكرة على المعنيين في دار أوبرا دمشق (يومها كان مدير عام الدار الفنان جوان قره جولي) وتواصلتُ مع الفنانة التونسية الصديقة "محرزية الطويل"، وتكفّلتُ بكامل تكاليف سفرها، ومجيئها إلى دمشق، بل ذهبتُ شخصياً إلى بيروت لأرافقها في دخولها إلى الشام.
وفي يوم الحفلة كان معنا على الخشبة الصديقُ عازف الغيتار طارق صالحية فقط! وهذا ما أثار تخوّفاتٍ عند بعض العازفين والفنانين مِن عدم نجاح حفلة بهاتين الآلتين فقط، أي من دون أوركسترا كاملة!
لكن يومها حَضَرَ قرابة ألف شخص، وضجّ الجمهور فرحاً بما قدمنا من أعمال متنوعة، منها: يا مسافر وحدك، وسمرة يا سمرة من التراث التونسي، وأغنية من ألحاني أنا ومحرزية نقول فيها "هات أبوسك من جبينك يا وطن غالي عليَّ"، وأغنية ثانية بسيطة كنوع من ارتجال ثنائي.. وأعتقد أننا تركنا أثراً طيباً جداً في ذاكرة الناس، وفي أرشيف دار أوبرا دمشق.
ونتيجة ذاك النجاح الكبير أعدنا فكرة وجود الفنانة "محرزية الطويل" عام 2018 وقدمنا الحفلة هذه المرة بوجود عازف الكونترباص باسم الجابر، وعازف الإيقاع عفيف دهبر، وكانت أمسية لا تنسى، تضمّن برنامجها: أغنية لفيروز، ومؤلفاتنا الخاصة، وموشحات منها يا غريب الدار، وشارك محرزية في الغناء الشاب السوري شادي عبد الكريم، في محاورة غنائية قوية جداً».
مَحَطَّاتٌ جَدِيدَةٌ.. وَالطَّرِيقُ طَوِيل!
«بعدها تنقّلت مع صديقي طارق صالحية على معظم المحافظات السورية وبجهد شخصي وتواصل مع المراكز الثقافية، فعلتُ ذلك كنوع من تحدٍّ للاستمرار في مشوار العزف رغم كل الأوجاع والمنغّصات والصعوبات، ورغم أن المبالغ الرمزية التي تدفع لنا لم تكن تكفي أجرة الطريق!
كما صوّرتُ فيديو كليب لمقطوعتي "قبل النسيم" مع أوركسترا كبيرة كاملة، وقام بالتوزيع الموسيقي يومها الراحل الشاب إياد عثمان!
وختمتُ آخرَ يوم في مهرجان العزف المنفرد على العود بدمشق.
وبعدها -يستمر السبسبي في رواية حياتِه- توجهتُ من جديد إلى خارج سورية: مهرجان العود الدولي في الرياض هذه السنة 2022، وفي فرنسا وإسبانيا والإمارات ولبنان ودار الأوبرا في القاهرة.. وجميعها أمسيات عزف منفرد، وعملنا "دويتو" أنا ووالدي حسين السبسبي في السعودية هذا العام، قدمنا فيها من مؤلفاته: سلمى، وتقاسيم حجاز حوارية بيننا، ووداع، وحنين، وغيرها.. مشروعي قائم، لم أشعر أنني اكتفيت، فما زال درب التعلّم والتأليف طويلاً، ولديّ رغبة بأن أجولَ العالم ناشراً موسيقاي».
مُوسِيقَا تَصوِيرِيَّةٌ
*نقرأ اسمكَ في معظم "تترات/ لوائح" أسماء العازفين المميزين الذين يؤدّون ويعزفون الموسيقا التصويرية للمسلسلات السورية، حبذا لو تُحدّثنا عن ذلك.
يقول: «شاركتُ في تسجيل مؤلفات المايسترو طاهر مامللي لمسلسل "العاصوف"، وكذلك في فيلم "حكاية في دمشق" بطولة غسان مسعود، كما شاركت مع الموسيقي المؤلف سعد الحسيني في عزف موسيقا مسلسل "باب الحارة"، ومع الموسيقيّ سمير كويفاتي في مسلسل "أيام لا تنسى"، واشتركتُ أنا ووالدي في مسلسل "حارة القبة" في الخطوط اللحنية المخصصة للعود.. وغيرها الكثير».
مَاذَا عَن الحُبِّ وَالأُبُوَّةِ؟
«الحب هو شيء أساسي بكل تأكيد، يمنحني الحزن والفرح، يعطيني الأمل، يجعلني أعزف بطريقة مختلفة من دون أن أعرف ما السبب المباشر، لكنني أكتشف أن الحب هو من كان محرّضي على ما أفعل بشغف وبطريقة مميزة تُولد أحياناً من دون قصد..
الأبوة أيضاً منحتني ابنتيّ "شوق" التي ألّفت لها مقطوعة "شوق الروح"، والصغيرة "بيسان".. أعزف لهما معظم الوقت وأستمع لهما بإصغاء شديد.
سأقول لك إن لديّ شغفاً آخر لا يقل أهمية بالنسبة لي عن العود، الخيول، عندي مزرعة تحوي بعضاً من أهم الخيول العربية الأصيلة، وسأشارك إن شاء الله في المسابقات القادمة في الديماس، وإن لم تجدني مع العود أو مع ابنتيّ ستجدني حتماً مع خيولي».
العُودُ هُو كُلُّ شَيءٍ فِي حَيَاتِي!
*لو طلبنا منك أن تصف علاقتك مع العود بجملة واحدة ماذا تقول؟
أقول: «إنّ العود هو كل شيء في حياتي».