عازفُ عودٍ ومُلحنٌ ومُؤلفٌ؛ لكن ليس هذا التعدد في المقدرة فحسب ما يجعل عيسى النجار موسيقيّاً صاحب تجربةٍ ثريّة، تستحق البحث فيها، إنما امتلاكه أيضاً الموهبة والشغف، وتمكّنه من إبداع أغنياتٍ قريبةٍ من يوميات الناس، بلا تكلّف، قِوامها كلمةٌ بسيطةٌ، مُتداولة، ونغمٌ تدندنه بسهولة، من هنا كانت كتابته وألحانه للصغار في عوالم مُختلفة، كذلك التزمت مُؤلفاته للكبار بمحليّةٍ خالصة منها (يا عيون ضيعتنا) و(يا طير الحمام وديلو سلام)، إلى جانب خوضه غِمار الأغنية الساخرة، على قلّة المُجربين فيها عندنا.
عَن الخَطَوَاتِ الأُولَى
بدأ النجار مع آلة الأوكرديون حين كان عمره 12 عاماً، ثم آلة العود بعمر 14 عاماً، وكان عزفه سماعياً في البداية إلى أن درس منهاج (ميشيل عوض) للعود، لكنه طوّر معرفته فعلياً من خلال القراءة عن تاريخ الموسيقا والتراثين الموسيقيين العربي والعالمي، يقول في حديثٍ مع "مدوّنة الموسيقا": «رغبتي بتأليف الأغاني كانت منذ الطفولة بحكم أن والدي رحمه الله كان يكتب الأغاني والزجل، وكنت أغنيها وإخوتي بطريقةٍ ما، دون أن أعرف أنني ألحن، من هنا تعلمت كيف أكتب الأغنية وألحنها، كتبت أول أغنيةٍ عندما كان عمري 13 عاماً، وألّفت بعض الأغاني في فترة المراهقة تعبّر عن الحب كما كنت أفهمه، أهمها أغنية (من بين هالحلوين نقيتك) غنتها أختي ريم، وفيما بعد غناها الفنان سليمان حرفوش على مسرح دار الأوبرا، كما ألّفت أغنيةً للمعلم في مرحلة الدراسة الثانوية، لاقت استحساناً كبيراً شجعني كثيراً في ذلك الوقت».
عَوَالِمُ أُغنِيَةِ الطَّفلِ
يستحضر النجار خطواته الأولى في عوالم أغنية الطفل، يقول: «في بداياتي كنت أشعر بصعوبة كبيرة في تأليف أغنية الطفل لأنني كنت شاباً صغيراً، لذلك اعتمدتُ على التجارب السابقة وتعلّمت منها، ومع ازدياد الخبرة أصبح الأمر ممتعاً جداً، خاصةً أنني أصبحت أباً، وعلمني طفلي الكثير، المطلوب دائماً أن تكون طفلاً لتستطيع أن تعمل مع الأطفال، مرةً سألت ابني، وكان عمره ست سنوات (لماذا فعلت كذا؟ فقال: هيك)، شرحت له أن كل فعلٍ نقوم به له سببٌ ما، وأسهبتُ بالشرح، لكن بعد فترةٍ طويلة، كان يسألني عن أمرٍ، وما كنت أستطيع أن أجيبه لصغر سنه، فقلت له (هيك)، وإذ به يقول لي: (مو أنت قلت لي ما في شي اسمه هيك؟)، كان هذا درساً علمني الكثير، التعاطي مع الطفل أمر ليس سهلاً بل ممتعاً وأتعلّم منه دوماً».
تتشعّب تجربة النجار مع الأطفال نحو المسرح والكورال والأوركسترا، يُضاف إليها عمله الحالي مع قناة يوتيوب عربية مختصة بالأطفال ممن أعمارهم 6 سنوات فما دون. وفي مسرح الطفل بدايةً، أخذت الكتابة والتلحين حيزاً كبيراً من اهتمامه، وكانت له مُشاركات كثيرة، منها مسرحية (مغامرة في مدينة المستقبل) للمخرج نديم سليمان، ومسرحية (الطيور الذكية) للمخرجة بثينة شيا، وفي السياق ذاته، كان لِتطوعه مع فريق بشاير بيدر جرمانا، نتائج مُبهرة.
يتحدث النجار: «أصبحت عضواً في الفريق منذ حوالي عشر سنوات، قدمنا خلالها الكثير من الحفلات، أنشأتُ كورال للصغار، وكنت أعتمد على الإمكانيات الموجودة وأقوم بتوليفها وتطويرها لتقدّم حفلاً ناجحاً، هذا العمل المباشر مع الطفل يخلق حالةً من التعلّم المتبادل، علمتهم وعلموني، وجرّبت معهم أغانٍ صعبة وموشحاتٍ، لاقت استحساناً، خاصة بعد أن تعرفوا على طريقة الأداء الصحيح للنغمات، وكنت من خلال هذه الأغنيات أجعلهم يستمعون لفن أصيل ويدخلون بتفاصيل النغم والإيقاع، ولأن الكورال عملٌ جماعي كنت أذكّرهم أن النجاح يحتاج للجميع، ويمكن لشخصٍ واحدٍ أن يخرّب العمل إذا فكَر بأنانية وأراد أن يبرز على حساب البقية، أو إذا تهاون في التدريب وحفظ اللحن والكلمات، وفي وقتٍ قريب سيكون لدينا عملٌ غنائيٌ مع الهلال الأحمر للتوعية من مخلفات الحروب".
لاحقاً، درّب النجار أوركسترا أطفال سوريا للآلات الشرقية، والتي تضم حوالي 200 طفل، لذلك كان لا بد من تقسيم العمل بالتعاون مع سليمان حرفوش (مغني ومدرب للكورال) والسموأل الشماط (عازف ومدرّب كمان)، وهنا يُضيف: «قدمنا حفلاتٍ مهمة على مسرح دار الأوبرا منها تكريم الفنان صباح فخري، وعلى مسرح الحمراء تكريم الفنان حسام تحسين بك، كما قدمنا أكثر من حفلٍ لمهرجان أغنية الطفل في الأوبرا، وفي هذه الحفلات قمتُ بمتابعة الأطفال موسيقياً وتدريبهم على برنامج الأمسية من خلال اللقاءات الأسبوعية (بروفات) ومن خلال تطبيق الواتساب أيضاً، كان يصل لهاتفي يومياً ما لا يقل عن خمسين تسجيلاً صوتياً، أسمعها جميعها، وأعطي الملاحظات، كانت النتائج رائعة واستطعنا تقديم برنامجٍ قوي رغم ضعف الإمكانيات لدى عددٍ من الأطفال».
مع فريق "بشاير بيدر جرمانا" أيضاً، قدّم النجار مشروعاً جديداً، يتحدث عنه: «قمت أنا والزميل سليمان حرفوش بإنشاء كورال للكبار، بدعمٍ كبير من الفريق وخاصة من مشرفه فايز حناوي، فقدمنا مجموعةً من الأمسيات الغنائية في صالة الفريق، وحالياً نستعد لإقامة حفلٍ خارجها».
مَشرُوعُ الأُغنِيَةِ النَّاقِدَةِ
في ميدان الأغنية الناقدة، كان عيسى حاضراً عبر مجموعة أغنيات، تُوازي ما نعايشه من مُفارقاتٍ ومواجع، لكن يبدو أن الظرف العام لم يكن داعماً بما يكفي، يقول لـ"مدوّنة الموسيقا": «بالتهكم يمكنك أن تقول كل ما تريده، بطريقة سهلة وبسيطة ومحببة للناس، ألّفت العديد من الأغنيات التهكمية التي تُحاكي مواقف حياتية، أغلبها عن يوميات شخصٍ عادي، تُظهِر طريقة تعاطيه مع الأحداث والمعاناة العامة المتعلقة بالزواج والحب والمرأة وظروف الحياة المختلفة، من خلال الأغنية أسلّط الضوء على العيوب والعادات السبية مثل أغنية (شو هالعصر)، بعض هذه الأغنيات قريب من قالب المونولوج المعروف في سورية منها أغنية (الدش)، معظم أغنياتي الساخرة قدمتها بصوتي ولحنتها بما يتناسب مع قدرتي الغنائية المتواضعة».
كما تعاونَ النجار مع الممثل "حسام الشاه" فغنّى له الأخير (أنا راسي سكر يا خال)، وقدّم بعضاً من تجاربه في هذا المجال للفضائية السورية، ضمن برامج تسلط الضوء على يوميات الحياة (الانترنيت، الأركيلة)، يُضيف الموسيقي: «كان لدي مشروعٌ في مجال الأغنية الناقدة لكن بسبب عدم القدرة على التمويل والتسويق، ومع عدم وجود شركات معنية بهذا النوع الفني في بلدنا، كونه لا أحد يهتم بالأغنية والتركيز كله موجه للدراما التلفزيونية، وظّفت بعض أغنياتي ضمن مشاهد تلفزيونية أو مسرحيات».
رَأيُ الجُمهُورِ أَولَوِيَّةٌ
في الكلام عن العود، يُؤمن النجار بأهميته عند تأليف الأغنية، لكنه لا يكفي أبداً، وعلى حد تعبيره "العزف شيء، بينما التأليف والتلحين شيء آخر"، يشرح للمدوّنة: «حتى تُؤلّف يجب أن يكون لديك ما تقوله، أي أن يكون لك موقفٌ ورأيٌ، يجب أن تعرف كيف يتعامل الجمهور مع الفن، ولماذا يُحب عملاً أو يكرهه، لذلك يجب أن تقوم بتقييم عملك الفني كما يراه الجمهور، وليس كما يراه الموسيقي، هذا يأتي من الثقافة والحياة فهما النبع الأساسي للتأليف، بالتالي هذه هي الأدوات ويجب أن تطورها دائماً، وهذا التطور لا ينتهي أبداً فأنا في حالة تعلّمٍ دائم".
ولأنّ رأي الجمهور أولوية، يطلب النجار من الجميع حوله، إبداء رأيهم تجاه موسيقاه، بصراحة ودون مجاملة، وكما يقول هذا علّمه كيف ينسى أنه موسيقي ويهتم بما يهتم له الناس، ويشرح أيضاً: «إنها معضلةٌ فنيةٌ، فليس مهماً للناس أن تكون قد قدمت عملاً فيه الكثير من التأليف والتركيب، ما يهمهم شيءٌ آخر تماماً، لذلك وجدت أن البساطة في اللحن والكلمات هي الأقرب لهم، لكن يُمكن أن تُقدّم بهذه البساطة أفكاراً معقدة، ربما، هذا ما يُسمى السهل الممتنع».
اِستُديو التَّسجِيلِ الصَّوتِيِّ
عام 2000، قرر عيسى مع أخيه لويد (عازف كمان وموزع موسيقي) تأسيس استديو للتسجيل الصوتي، لتبدأ محطة جديدة في مشواره، يقول عن الفكرة: «شجعنا على ذلك وجود مقومات المشروع وبعد إصدار قانون حماية المؤلف، توقعنا وقتها أن المستقبل في صالح التأليف، لكن القانون لم يُنفّذ فعلياً، مما جعلنا أمام صعوباتٍ مادية ليس لنا طاقة لها، عموماً كان لتأسيس الاستديو أثرٌ كبيرٌ في إنتاج أعمالنا لأنه يُخفف العبء المادي من جهة، ويُعد من جهةٍ ثانية مُختبراً يمكنك أن تجرّب فيه كل الأفكار وترى مدى جمالها»، وهو ما كان عندما قدّم عيسى عدة أغنياتٍ عاطفية، بصوت أخته ريم، وبعضها قدمه ضمن أمسياتٍ غنائية مع أخته وأخيه، باستخدام الموسيقا المسجلّة ضمن الاستديو، مُضافاً إليها العزف والغناء على المسرح.
دَبلَجُةُ عَشَرَاتِ الأُغنِيَاتِ
إضافةً إلى ما سبق، كان للنجار تجربة في دبلجة عشرات الأغنيات للكبار والصغار، من لغات أجنبية للعربية، من (الأمريكية، الهندية، التركية، الإيرانية، الكورية، وغيرها)، عنها يقول: «استفدتُ من هذه التجربة كثيراً، لأنها تسمح بكتابة كل أنماط الأغاني التي أنتجتها ثقافة مختلفة عني، لكن يجب عليّ إعادة صياغتها كلياً، لتناسب الثقافة العربية خاصة أنها تقدم على محطاتٍ عربيّة».
لَا يُكَرِّرُ نَفسَهُ وَلَا يَستَسهِلُ!
الفنان حسام الشاه وصف النجار بواحدٍ من الموسيقيين القلائل الذين يمتلكون مشروعاً غنائياً واضح المعالم، ويتسم برؤية عميقة، مشروعٌ ساخرٌ وشعبيٌّ، ورومانسيٌ في لحظة من اللحظات، وقال في حديثٍ مع "مدوّنة الموسيقا": «أحياناً نستمع معاً إلى أغنيةٍ جديدة، ضاربة في عالم التريند، أسأله عن رأيه، فيجيبني بسؤال (ما هو موضوع الأغنية)، وحين أفكّر أجد أنه لا يوجد موضوع، إذاً كما تحصل التريندات عادةً، مجرّد حالة صوتية صاخبة، صنعت شيئاً من فرح، وهنا يكمن الفرق بين عيسى النجار وغيره، الموضوع على درجة من الأهمية في أعماله، فنانٌ ينتمي إلى مجموعة موسيقيين سوريين لم ينصفهم القدر، ولا سيما في السنوات العشر الأخيرة».
وأشار الشاه أيضاً إلى أن النجار أثبت جدارته في مسرح الأطفال كتابةً وتلحيناً، مُتجاوزاً ما قاله بعض الرواد عن أن الأطفال يجب أن يُغنوا (دون ربع صوت والمقامات الغربية فقط)، وإنجازاته معهم في الحفلات والأمسيات منذ أعوام تُؤكد هذا، كما استعاد مشاركة النجار معه في مسلسل (راكورات)، في الموسيقى التصويرية، وقال "اشتغل النجار بشغفٍ وحبٍّ وانتماءٍ عالي المستوى، يقل نظيره، هو رجلٌ لا يتعب من العمل بقدر ما يستاء من أن لا يصل عمله للناس بالطريقة التي يُريد، لا يكرر نفسه ولا يستسهل، وهذه أهم السمات التي باتت عملةً نادرةً في هذا الزمن".