إذا كان الإصغاء يُوازي عادةً الموسيقا المشغولة بِحبٍّ، فلا نملك أمام عازف البزق بحري التركماني، سوى استماعٍ يليق بالرصانة والحرفيّة اللتين يُعرف بهما أداؤه، بحيث تبدو كلمة إبداع، توصيفاً هو الأنسب، لِما قدمه طيلة تسعةٍ وثلاثين عاماً، ولا يزال، بدأه صغيراً يعزف في حفلاتٍ بسيطة، إلى أن وقف على مسارح كُبرى، في الصين والبرازيل وباكستان، مُقدِّماً مقطوعاته "جنون البزق، لونغا دلامة، غضب، مخاض، سماعي بيبرس، كوابيس"، وفي عوالم البزق أيضاً، يستعد للعمل على "ميتود/ كتاب" يُعلّم العزف عبر مجموعة مقطوعاتٍ وشروحات.
عن البدايات
تَوارثت عائلة التركماني العزف على "الساز والباغلاما والطنبور" من جده ثم إلى خاله وأخيه، لكن الأخير اختار البزق الشبيهة بالآلات السابقة، ما أثار فضول بحري، الذي أحبّها وتعلّم العزف عليها سريعاً، حتى أنه شارك وعمره تسع سنوات، في جلساتٍ وأعراسٍ مع عازفين أصحاب خبرة، يقول في حديثٍ إلى "مدوّنة الموسيقا": «تعلّمتُ المقامات بالاستماع إلى عازف البزق اللبناني مطر محمد، أتقنتُ مقطوعاته وموسيقاه، ووصلت إلى مرحلةٍ لا يستطيع المُستمع فيها التفريق بين عزفي وعزفه، وفي المرحلة ذاتها، كنت رائداً على مستوى سورية في الصف السادس، في العزف على البزق، لاحقاً شعرتُ أنني أريد أشياء أخرى، فصرتُ أسمع موسيقا غربية كلاسيكية لبيتهوفن وموتسارت، لكن الشعور بنقصٍ يجب ترميمه ظل موجوداً، إلى أن اقترح صديقٌ الاستماع إلى أمير البزق محمد عبد الكريم"».
تأثّر التركماني بمحمد عبد الكريم، الاسم الأول عربياً في ميدان البزق، وعرف أنه طوّر الآلة فجعل أربطتها 38 بعد أن كانت 18 للتنويع في النغم، ولأن عدداً من المقطوعات والمقامات لا يمكن عزفها على آلته من الطراز غير المُعدّل، بدأ العمل لتطويرها أسوةً بالأمير، لكنه لم يستطع العزف عليها مباشرة، يُضيف للمدوّنة: «صعوبة العزف على البزق تأتي من تكنيكه الأفقي، لذلك قررتُ العزف بدون علامات ودساتين، وهو أمرٌ غاية في الصعوبة يعرفه الموسيقيون جيداً، بقيتُ على هذه الحال خمس سنوات مُعتمداً على التركيز والسمع الدقيق، ثم عدتُ إلى 38 علامة في البزق الجديد، وكانت سهلة قياساً بما عوّدت نفسي عليه».
خُصوصيّةٌ مُوسيقيّة
هكذا تعلّم التركماني باقتدارٍ لافت، دون أن يدرس الموسيقا أكاديمياً، بسبب تحفّظ الأهل، وباجتهادٍ شخصي وفهمٍ لضرورة التطوّر، بَحثَ عن خصوصيته كموسيقي، وكان تأليف الأغنيات الطربية، طريقاً جديداً يكتشفه، لم يلبث أن تركه مُتجهاً نحو المقطوعات الموسيقية، وفي جزءٍ كبيرٍ منها مُؤلفاتٌ تخص البزق وحده، يشرح للمدوّنة: «المقطوعات تحتاج تفكيراً ودراسة، وما ألّفته حتى اليوم إرثٌ لي ولأولادي، أتمنى أن يجد صدىً عند الناس، ولِيعرفوا أيضاً القدرات التي وصلت إليها مع هذه الآلة».
البعض ممن يستمع لأعمال عازف البزق يشعر أنها تنتمي بِرقيها ومُستواها، إلى ما بعد خمسين عاماً، وليس اليوم، لكنه رغم ذلك مصرٌ على السير في طريقٍ مُحدد، يبتعد فيه كلياً عن النمط الشعبي الأكثر حضوراً، يقول: «منذ رحل فؤاد غازي، والتشويه في ميدان التراث أكبر من الوصف، أغنيات اليوم زمّيرات، للأسف الساحة الفنية خالية من أنواعٍ موسيقيةٍ أخرى، ولو كانت موجودة فعلاً، فالنتيجة واحدة، الطبل والرقص سيطغيان على ما سواهما».
الاستماع للموسيقا الشرقية والغربية، ساهم في اهتمامه بالموسيقا التصويرية أيضاً، وعلى حد تعبيره «هذا عالمٌ آخرٌ فيه غنىً كبير، يتجاوز البزق نحو آلاتٍ أخرى كالغيتار والعود»، مع الإشارة إلى أنه يعزف على الآلات الوترية جميعها، من ضمنها الطنبور والساز والباغلاما، ولكلٍّ منها هويتها وخصوصيتها، إلى جانب عمله كموزّعٍ موسيقي.
لا عُضوية في نقابة الفنانين!
شارك الموسيقي في العديد من الحفلات والمهرجانات مع فرقة أو كعازفٍ منفرد، داخل سورية وخارجها، كمهرجان صفاقس في تونس 2004، ومهرجان عالية في لبنان 1996، كما عمل في مصر كعازفٍ منفرد بين عامي 1997-2001، وعزف هناك مع كبار الفنانين مثل هاني شاكر وأنغام محمد علي، كذلك أحيا العديد من الأمسيات منها أمسية المركز الثقافي الدنماركي 2001، وافتتح مهرجان آلة البزق التاسع، لكنه لم يصبح رغم هذا كله، عضواً في نقابة الفنانين، يقول: «أفنيتُ عمري في الموسيقا، لكنني لستُ موسيقياً سورياً، النقابة لا تعترف بي، هل يُعقل هذا؟»، ويُضيف: "منذ بداية الأزمة لم تُعلن النقابة عن أي امتحانٍ نقابي لقبول أعضاءٍ جدد، وعندما أعلنتْ عن ذلك، لم أستطع التقدّم لأن عمري تجاوز الأربعين عاماً، وهو ما يُخالف شروطها، الأمر يحز في نفسي كثيراً، في بلدي لا يعترفون بي بعد 39 عاماً من العمل!".
أوّل مرّة
مُؤخراً، أقام التركماني حفلته الأولى في دار الأوبرا، وهي برأيه تكريمٌ لمشواره، يقول للمدوّنة: «دار الأوبرا لها رمزيتها ومكانتها، لذلك الوقوف على خشبتها حلم أي عازفٍ يحترم نفسه وفنه، أتمنى التكريم في بلدي، للأسف إلى اليوم، هناك موسيقيون وجمهور كبير لا يعرفني، ربما قصّرت في الترويج لفني كما بات مُتعارفاً عليه، لكنني لم أجد نتيجةً هنا، لا أحد يرغب تسليط الضوء علي، أكبر مساعدةٍ أتلقاها هي إحياء حفلٍ في مركز ثقافي، لذلك كان لا بد من التوجه نحو الخارج، والنتائج جميلة جداً».