اعتادت يديه على الآلات الموسيقية منذ الطفولة، وكانت آلة الكمان الفائزة في اكتساب اهتمامه أكثر من البيانو، ودخل إلى عالم التأليف الموسيقي في عمرٍ صغير، ولم يكتفِ بتعلم الموسيقا بل اهتم بالفلسفة وخاض في سراديب الميثيولوجيا والتاريخ القديم، وعمل على سرد قصصها عبر نوتات موسيقية تعبر عن الحالة في تلك الفترة، فكان من أعماله "دموزي" و"بوابات حلب السبع".
المُوسِيقَا فِي الطُّفُولَةِ
لم تكن طفولة "مصطفى مليّس" ضمن عائلة موسيقية فحسب، بل كانت والدته مواظبة على الاستماع للموسيقا خلال فترة حملها، وعن الطفولة يتحدث لـ"مدونة الموسيقا": «كانت عائلتي تمتهن الموسيقا دونما غيرها من الفنون فقد كان والدي وعمي موسيقيين، وأخوالي عازفي كمان وضاربي إيقاع، لذا كان أمراً مسلماً به أن أتجه نحو الموسيقا، خاصة وأن الوالدة كانت مواظبة خلال فترة حملها بي على الاستماع لموسيقا باخ وموتسارت وبيتهوفن بحسب ما روت لي، وفي عمر الثلاث سنوات بحسب رواية والدي كنت أقوم بالضرب على الآلات الموسيقية الخاصة به، لأبدأ بتعلم الموسيقا في عمر الست سنوات من نوتات وعزف، فقد كانت مراقبتي لوالدي أثناء العزف والتأليف تدفعني أكثر للتعلم، كما أن اختلاطي مع الكثير من الموسيقيين الذين كانوا يترددون إلى منزلنا ويعزفون الموسيقا أيضاً زاد شغفي واهتمامي أكثر للموسيقا».
ويتابع "مصطفى" الحديث عن طفولته مع الموسيقا: «بدأت تعلم الموسيقا في الطفولة مع والدي الذي كان المعلم الأول، وانضممت لاحقاً إلى المعهد العربي في حلب والذي أطلق عليه لاحقاً اسم معهد "صباح فخري" ونجحت باختبار القبول بنتيجة جيدة، ومنها درست مع "فادي إسكندر" آلة الكمان وكان أستاذاً مؤثراً في حياتي فقد علمني الآلة بشكل جيد جداً لمدة خمس سنوات، أما "بيرج قسيس" فقد علمني التأليف الموسيقي وكان بمثابة العراب لي في مرحلة التأليف الموسيقي ودراسة نظريات الموسيقا، لأبدأ في عمر الـثانية عشر بالتأليف والتلحين وكان أول عمل قمت به أنني أخذت أعمال للموسيقي باخ، وأجريت لها تنويعات ليتم عزفها للكمان والبيانو، وبعد تعديل العديد من أعماله بدأت بكتابة ألحان خاصة بي، وكانت البداية مع قالب السوناتا وأعمال للبيانو والكمان، وأنجزت ما يقارب الثلاثين عمل لأقوم بإحراقهم لاحقاً لأنها كانت مسودات طفولية ولا ترقى لأن تكون أعمال حقيقية، وانطلقت بعدها مرة أخرى بالتأليف وكان أول عمل تم إنجازه هو سوناتا للبيانو، تلاها الكثير من الأعمال آخرها اليوم هي "دموزي" وسوناتا الكمان التي تحمل اسم "بوابات حلب"».
اِنتِقَاءُ آَلَةِ الكَمَانِ
بدأ "مصطفى" العزف على آلة البيانو وأتقنه جيداً، ليتحول كل اهتمامه إلى آلة الكمان التي أصبحت آلته فيما بعد، ويتحدث عن أهمية تعلم الموسيقي العزف على آلة البيانو فيقول: «كان كل اهتمامي أن أتجه نحو التأليف الموسيقي، لكن كان لابد من تعلم العزف على آلة موسيقية، وبدأت دراسة البيانو مع والدي ومع بيرج قسيس، لأن أي ملحن أو موسيقي بشكل عام يجب أن يعرف العزف على البيانو ويعرف كيفية بناء الأصوات من خلاله، فصوت البيانو صحيح 100% ولا يمكن أن يعطي نغمة خاطئة كالآلة الوترية، ومن ناحية أخرى إن تعلم آلة البيانو في البدايات أسهل بالنسبة للعازف الذي يجلس أما الآلة ويعزف على مفاتيحها ليسمع الصوت الصحيح للنغمة، فالعازف إن سمع النغمة خطأ سيعزفها بطريقة خاطئة، على سبيل المثال نوتة "لا" 440 هرتز إذا تعلمها العازف 430 هرتز، تلقائياً عندما يعزف على آلته سيعطي 430 بدلاً من 440 وهنا يظهر النشاز في اللحن».
ويتابع "مصطفى" الحديث عن سبب اختياره لآلة الكمان: «وقع اختياري على آلة الكمان لأني كنت متأثراً بعمي الذي كان يعزف على الكمان، وعندما بدأت بالعزف على آلة الكمان بشكل جيد أحببتها أكثر بالرغم من أنني أعزف على البيانو أيضاً لكنني أميل للكمان أكثر لأن صوتها معبّر أكثر وعندها قدرة على ملامسة الإحساس بشكل كبير، فالعازف يستخدم أداتين هما الأصابع وصوت القوس اللتان تساعداه على إعطاء مزيج صوتي يحمل حسّاً عالياً، وتمتلك آلة الكمان إمكانيات أوسع فأن قادر على العزف بالإصبع والعزف بالقوس والضرب على الآلة، ولذلك قمت بانتقاء آلة الكمان كآلتي الأم بدلاً من البيانو».
المَحَطَّاتُ المُهِمَّةُ
لكل موسيقي محطة مهمة ترك أثراً في حياته، عن هذه المحطات يقول "مصطفى": «اعتبر المحطات المهمة في حياتي هي كل نجاح حققته بعمل قدمته أو لحن قمت بتأليفه وانبهر به الجمهور سواء بالأسلوب أو بالعاطفة الموجودة فيه هذا على الصعيد الشخصي والنفسي، أما على الصعيد المادي كان المعهد العالي محطة مليئة بالتحدي والانتقالات النوعية بالنسبة لي، أما الحفلات فهي الحفلات التي كنت فيها سوليست، ولكن لا أعتبر الحفلات نقلات نوعية فالجميع قادر أن يشارك في حفلات ويقدم كعازف منفرد، لذا أعتبر النقلات النوعية الحقيقية هي فقط حين أقدم شيء لم يقدمه أحد مثلي كألحاني مثلاً، فمن الممكن أن تجد من يقدم أفضل أو أقل مني لكن لن تجد من يقدم مثلي تماماً، لذا كل عمل أنجزته سواء بشكل لغوي كمقال أو بشكل نوتة كالتأليف الموسيقي هو محطة تاريخية، فما أكتبه هو بناء على خبرات طويلة ومعارف كثيرة وتراكم معرفي طويل، باختصار أي شيء يمكن أن يرفع من سوية الآخرين والمجتمع أو يزيد من ثقافته وتعليمه هو نقلة نوعية جيدة جداً».
الأُسطُورَةُ دموزي
يعمل "مصطفى" على تحويل الأسطورة أو الحادثة التاريخية إلى مقطوعة موسيقية من تأليفه، وعن عمله الموسيقي "دمّوزي" وسبب اختياره لهذه الأسطورة يقول "مصطفى": «إن أي عمل ميثولوجي مكتوب عن طريق الأشعار التي أصبحت في وقت لاحق شيء ديني، وأعتقد أن الإنسان القديم كان قادراً على مساعدة هذه الآلهة الميثولوجية بمهامها عن طريق الطقوس التي كان يقوم بها والتي يعتبر من خلالها أنه قادر على استنهاض الآلهة من جديد وأن يعيد إحياء ذكراها، و"دموزي" في الأسطورة لم يمتْ، وهناك عدّة أفكار للعمل الموسيقي "دموزي" الفكرة العامة منه هي التضحية لأجل الحب والأفكار الفرعية هي أن الإله دموزي لا يموت بل يتم بعثه للحياة مرة ثانية، هو بأحد العوالم مات وبعث للحياة وتزوج من "إنانا" في دورة واحدة في زمان الأصول والتأسيس كما تُسمّى، ويطلق عليها في الفلسفة اسم "عَوْدٌ أبديٌّ" ويشابه إعطاء نموذج بدئي لصيرورة العمليات الطبيعية، وموته وحياته هي دورة حياة طقسية، ودورة حياة دموزي التي كان فيها قاهراً للموت وحرر نفسه من قوانين العالم السفلي التي تلزمه بالبقاء فيه بمجرد الدخول إليه، تعطي الإنسان الأمل بالتجدد والتغلب على الصعاب وتحقيق الخلود، وتأخذ بيده من برزخ الموت لعالم أكثر بهجة وسعادة من عالمه الأرضي، فالعالم السفلي والعالم العلوي هما مجرد رمزين».
وعن ميثولوجيا «دموزي وعشتار» يقول "مصطفى": «أتحدث في هذه الميثولوجيا عن التضحية لأجل الحب فالآلهة عشتار ضحت بنفسها لأجل زوجها فقد تركت العالم العلوي الخالد ونزلت إلى عالم الأموات العالم السفلي أو مايسمى عالم الظلام فهي تخلت عن عرشها وأوهيتها كآلهة للحب والجنس والحرب وأم البشر كما صورها السومريون والآشوريون والأكاديون، تحلت عن كل ذلك لأجل من تحب، ودخلت العالم السفلي وعانت ما عانته هناك وقتلت على يد الوزراء وآلهة العالم السفلي التي كانت من بيهم أختها "أركشيجال" بحسب الأسطورة، فالعمل تصوير التضحية لأجل الحب، وهو الحب الأسمى الذي قدمته عشتار لزوجها دموزي».
أُسلُوبُ التَّانغو
في عمله "Grief Tango" الذي كتبه منذ عام 2018 وأبصر النور منذ فترة وجيزة اعتمد "مصطفى" أسلوب التانغو وعن اتجاهه نحو هذا الأسلوب عند تأليفه لعمله يقول: «كتبت هذا العمل بأسلوب التانغو لسببين الأول أن هذا العمل موجه لشخص يرقص التانغو، والسبب الآخر لأنني استطعت من خلاله امتلاك قالب ايقاعي حرّ في الكتابة، وقادر أن أضع به القوة الكبيرة لآلتي البيانو الكمان والتي أظهرت قوة العنفوان الموسيقي الموجود في اللحن».
"بَوَّابَاتُ حَلَبَ".. قَرِيبَاً!
أما عمله "بوابات حلب" التي يتحدث فيها عن بوابات حلب التي تمثل كواكب المجموعة الشمسية وغايته من هذا العمل يقول "مصطفى": «حول متتالية بوابات حلب، هو عمل من سبع حركات، كل حركة منه تعبّر عن باب من أبواب حلب السبعة الرئيسية وكل حركة موضوعة في مقام شرقي مختلف، تم اختيار المقامات الشرقية ونسبها للأبواب نسبةً وتيمناً بالكواكب، الحركة الأولى في مقام راست من درجة ري وهي تصف باب النصر من جهة الشمال والذي يمثله كوكب عطارد، وكوكب عطارد مقامه العربي هو راست، وهكذا دواليك، وهذه المتتالية بحركاتها السبعة هي مشروع حجر أساس لتطوير مقدرة الكمان الشرقي، واهتماماً بالجانب التعبيري للموسيقى الشرقية الآلية، إذ أن موسيقانا الشرقية غنية جداً من الناحية التعبيرية، وهي ذاخرة بإيقاعاتها ومقاماتها، إلا أنها غنائية في الغالب لا آلية، وهنا تكمن أهمية هذا المشروع، ناهيك عن الأهمية التعبيرية لقالب السوناتا الذي يمكن وصفه أنه قالب متباين وهذا ما يعطيه أهميته، وهنا نرى توظيف المادة الموسيقية الغربية بالمادة الموسيقية الشرقية، أيضاً هذا العمل هو توثيق فني موسيقي لبوابات حلب السبعة، التي تعتبر مدخل لمدينة حلب».