من الفنانين القلائل الذين يهتمون بالموسيقا الأكاديمية في الجزيرة السورية يرفض الفوضوية الموسيقية الدارجة، يعمل بهدوء على إعداد جيل مهتم بالموسيقا الجادة وفق أسس سليمة حيث يقوم الموسيقي "ريناس ملكي" من خلال تعليمه وتدريسه في عدة أماكن لاسيما مؤسسة "ألياس حنا" التي تهتم بالموسيقا السريانية وتعليم الصولفيج والعزف.
شغف وإصرار
«وجدت في الموسيقا حلاً مثالياً لتحقيق رغباتي، لاسيما أن اتابع اكاديميا كدراسات عليا" كما يقول "ريناس ملكي" لمدونة الموسيقا ويضيف: قدمت للمفاضلة لدراسة آلة البزق في كلية الموسيقا "حمص"، ونلت الدرجة الثانية، وبدأت الدراسة بشغف كبير حتى نهاية السنة الثانية، كانت الأحداث المريرة في بلادي تتسارع، وأدى ذلك إلى إغلاق الحرم الجامعي في "حمص"، بسبب استهدافها هنا بدأت أشعر بشيء من القلق، وأقول في نفسي، هل أنا على الطريق الصحيح، هل النتيجة تستحق هذه المغامرة والمخاطرة، ولم أستسلم إلى أن استشهد ابن أخي على جبهات "إدلب"، هنا انهارت كل طاقتي، وبذات الوقت زاد إصراري وتمسكي بالموسيقا، فشاركت في عدة فعاليات في مدينة "حمص" المنكوبة وقتها، وأهمها المشاركة كعازف منفرد على آلة البزق في أغنية "مشتاقلك ياحمص" وتم تصويرها في الأمكنة التي دمرها الارهاب وبعدها أغنية بعنوان "الأم" باللغتين العربية والكردية لنبرهن فيها بأن مصيرنا -نحن السوريون- واحد بكل أطيافه وألوانه».
من التراث
درس "ريناس ملكي" آلة البزق والنظريات الموسيقية في الكلية، حيث عشقه الطفولي وبتشجيع من شقيقته لكي يتعلم على هذه الآلة، وفي بدايته اقتنى آلة الطمبور كأغلب موسيقيي الجزيرة السورية، وتعلّم عزف الألحان التراثية الكردية ذاتياً، كما طوّر مستواه الموسيقي ليصبح الموسيقا شغله الشاغل، ويرى قيمة آلة البزق في تاريخها القديم يقول : «نعم أنها آلة قديمة، ولكني أرى هذه ميّزة لها، وعدم تطورها كما يزعم البعض، لا يعني بأن الآلة فقدت رونقها وخصوصيتها، على العكس تماماً، فقد لاحظنا أن تطوير بعض الآلات الموسيقية أودت بكثير من الألحان إلى الهاوية لا سيما التراثية منها, ولا أعتبر بأنها آلة فقيرة، كونها لاتملك رصيداً كبيراً من القطع الموسيقية الخاصة بها، وبذات الوقت أتفق مع البعض بأنها آلة شعبية ولكنها تمتلك إمكانيات قياساً بعمرها».
الفلسفة والموسيقا
يرى "ملكي" بأن عملية المزج بين الموسيقا الشرقية والغربية لم ينجح تماماً، إلا في الموسيقا التصويرية، أما على المسرح وفي عروض المونولوج والديالوج لم تنجح، بل في كثير من الأحيان أخرجت طفرات مشوهة، ولكنه يؤكد وجود علاقة وثيقة بين الموسيقا الفلكلورية والموسيقا ذات الطابع الثقافي ويضيف: «هناك علاقة بينهما، لكن بوجود فوارق في النقد والتحليل والتوجيه، الموسيقا الفلكلورية يمكن تحليلها بعمق ولا يمكن توجيهها، كونها واقعية أكثر، أما الثقافية يمكن تلوينها و تهجينها».
وبذات الوقت يؤكد الموسيقي "ملكي" بوجود تقاطعات بين الفلسفة والموسيقا، ينهي حديثه بالقول: «الفلسفة هي نتاج غزارة المعرفة والإدراك وكذلك الموسيقا، وقد تكون الموسيقا أشمل منها في الكثير من الأحيان، لأنها لا تحتاج دائماً إلى شخص ذي سوية ثقافية عالية لكي تصله إحساس معين أو فكرة معينة، لأن تركيبة الموسيقا بنوتاتها هي خُلقية، خُلقت كأساس من أساسات الكون، لذلك تركيبتها كأي مادة حسّية معقدة وضرورية ولا نهائية وهي مترافقة ومتلازمة مع الإدراك البشري منذ نشأته وحتى مماته، والصوت المنتظم (النغم) كالماء والهواء والحب والحزن والفرح والخشوع وهذه الحالات، هي أساس الحياة».
خبرة وثقافة
بعد تخرجه عاد "ملكي" إلى مدينته "القامشلي" ليبدأ حياته العملية، وعن هذه المرحلة يوضح: «في عودتي، حملت معي إيماني القوي بالموسيقا وتأثيره على النفس البشرية، ورسالتها الإنسانية، هنا اختارني السيد "إلياس حنا" ليكمل فريقه الباحث عن تطوير المجتمع الجزراوي على الصعيد الفني والأكاديمي ولتطوير الموسيقا السريانية وإعادتها إلى الواجهة، وكل يوم تزداد ثقتي بأن الموسيقا ستبقى إلى نهاية الحقيقة».
يقول "جمو سعيد" الموسيقي وعازف على آلة "الطمبور": «لاشك بأن معرفة الموسيقي "ريناس ملكي" بالتراث الجزواوي الملّون وعزفه على آلة البزق ومن ثم صقل هذه الموهبة أكاديمياً، كونت عنده ثقافة موسيقية واسعة، وأسلوب عزف مميز، وحساً جمالياً قلما نجده عند عازفي البزق الشباب، إضافة إلى ذلك يمتلك خبرة في علم النظريات الموسيقية ما يجعله مدرساً ناجحاً للصولفيج والعزف الجاد الخالي من الشوائب، وباستطاعته تأهيل عازفين على البزق بمستوى متطور».
ريناس ملكي من مواليد قرية "حلوه" التابعة لمحافظة "الحسكة" عام 1985.