هي حكاية تحدٍ وخروج عن المألوف، انطلقت من سؤال يحمل في عمقه طموحاً كبيراً: هل نستطيع؟.. وبالفعل استطاعوا، واليوم تضيء "أوركسترا النفخيات السورية" شمعتها الخامسة، وهي تقف على أرض أكثر ثباتاً وصلابة.
إرهاصات التأسيس
كيف جاءت فكرة تأسيسها، ومن أين انطلقت الشرارة الأولى؟. يجيب المايسترو إيهاب القطيش قائد "أوركسترا النفخيات السورية" في حديثه لـ "مدونة الموسيقا" قائلاً: «عندما كنت طالباً وسافرت إلى أكثر من بلد، شاهدت أوركسترات النفخ وكيف كانت تُكتب الأعمال لها، ووجدت أن أدوار النفخ تعادل أدوار الوتريات، وأن "آلات النفخ" قادرة على العزف بهذه الطريقة. فصممت أن أنجز هذا المشروع بعد تخرجي وعودتي إلى سورية، وكان بمثابة حلم كبير أن أُنشئ أوركسترا للنفخيات، وعندما عرضت الفكرة على أصدقائي سروا لذلك».
الحفل الأول
حول الشرارة الأولى للانطلاقة، يقول: «بدأنا عام 2019 على مسرح "مركز الفنون البصرية" بتسعة وعشرين عازفاً، وقدمنا في حفلنا الأول برنامجاً منوعاً "شرقياً وغربياً"، حاولنا من خلاله أن نستشف إلى أين يتجه ذوق الناس، لأن الآراء التي يطرحونها يمكن أن تُغني فكرتناـ وجاء الحفل بمثابة عملية "جس نبض" للجمهور، لأن "آلات النفخ" هي خارج سياق الثقافة العربية عادة».
ويشير المايسترو "إيهاب القطيش" إلى أن الحفل ضم آلات نفخية خشبية ونحاسية، ومجموعة من الآلات الإيقاع، ورباعي وتري، و"صولويات" لآلات الأوكورديون والكمان والبيانو، إضافة إلى وجود راقصين. يقول: «كان عازفو الأوركسترا مسرورين للانطلاقة، ولكنني منذ ذلك الوقت لم أنم. لأني بت في كل حفلة أتساءل عما سنعزفه، وكيف سنتطور؟ وكيف ينبغي أن أتطور على صعيد القيادة؟.. وباتت تشكل الأوركسترا بالنسية إلي هاجساً هاماً في حياتي».
مكتبة موسيقية
اتخذت الأوركسترا مجموعة أهداف بوصلة لها، لتكون مؤثرة وفاعلة في الحراك الموسيقي السوري، منها ما تحقق كما يؤكد المايسترو "القطيش"، يقول: «أصبح لدينا مكتبة موسيقية تضم برنامجاً كبيراً لـ "أوركسترا النفخيات السورية"، تعزفه الأوركسترا، حيث استطعنا على مدار السنوات الخمس الماضية أن نجمع مكتبة هامة "تنويط موسيقي وأرشفة"، خاصة أننا كنا نقدم برنامجاً جديداً في كل حفلة ولا نعيد ما سبق أن قدمناه». مشدداً على أن الموسيقيين السوريين يوزعون الأعمال ويكتبونها وينوطونها، بطريقة أكاديمية واحترافية عالية المستوى.
تأهيل الأطفال
وفي حديثه عن الأهداف يبيّن أن هناك هدفاً يتعلق بتحقيق "فرصة عمل"، يقول: «الطالب الذي تخرج من المعهد العالي للموسيقا على آلة نفخية تبقى فرص عمله قليلةـ، ففي "الاوركسترا السيمفوني" يحتاجون عازفَين أو ثلاثة على آلة "الفلوت"، ولكن عدد عازفيها في "أوركسترا النفخيات" يصل إلى ثمانية، وبالتالي هناك فرصة للخريج "وإن كانت صغيرة" في أن يعزف ضمن الأوركسترا».
ويُكمل قائلاً: «هناك هدف أتوقع تحقيقه قريباً، يتعلق بتأهيل الأطفال أكاديمياً لمن يعزفون على الآلات النفخية». ويشير إلى أنه في الحفل الأخير للأوركسترا أن هناك موسيقيين باتوا يطلبون العزف معها.
فريدة من نوعها
«أعتقد أن "أوركسترا النفخيات السورية" هي الوحيدة في الشرق الأوسط، لكنني متأكد أنها الوحيدة في الوطن العربي».. هذا ما لفت إليه المايسترو إيهاب متطرقاً إلى الحفلات الموسيقية التي قدموها خلال السنوات الخمس الماضية، يقول: «عزفنا الأنماط الموسيقية كلها تقريباً "عربي، لاتيني، أفريقي، جاز، الكلاسيك"، حيث جاء الحفل الأول منوعاً، والثاني كلاسيكي، والثالث جاز ورقصات وتانغو، الرابع أمسية بلقانية، وفي الحفل الأخير عزفنا "موسيقا الأفلام" التي جمعت بين عدد من الأنماط الموسيقية».
وعن الأماكن التي قدمت فيها الأوركسترا حفلاتها، يشير إلى أنها "مركز الفنون البصرية، دار الأسد للثقافة والفنون" كما عزفوا في "حمص، درعا"، مؤكداً أن هناك حفلات قريبة ستقام في عدد من المحافظات. أما عدد العازفين في "أوركسترا النفخيات السورية" اليوم فقد بلغ خمسة وأربعين عازفاً.
موسيقا الأفلام
ليس من السهولة بمكان انتقاء موضوع الحفل والبحث ضمنه لاختيار الأنسب، الأمر الذي يمكن أن يشكّل تحدياً حقيقياً في سعي لإنجاز المختلف، وهو ما عاشته الأوركسترا فترة التحضير لحفلها الأحدث "موسيقا أفلام" الذي توّج عامها الخامس، يقول:
«كان عراكاً استمر مدة ستة أشهر بيني وبين نفسي، لكني ذهبت فيه نحو الذوق العام لما يحبه الجمهور، وبحثت عن الأفلام المشهورة التي تلامسه، مثل "التيتانيك، الكاريبيان، قناع زورو، مهمة مستحيلة، المُحارب.."، وهي أعمال تركت بصمة في الذاكرة، لذلك كنت متأكداً أنهم سيستمتعون عندما نقدمها، وقد اخترنا مقطوعات صعبة، ولكن هاجسنا الأساسي أن يكون الجمهور مسروراً. وعزفنا موسيقا الفيلم كاملة "الموسيقا التصويرية والأغاني"، وهنا كان التحدي».
سبق ووصف المايسترو إيهاب هذا الحفل بأنه من ”النوع الثقيل"، يقول "لمدونة الموسيقا": «لا أظن أن هناك أصعب من ذلك، بأن تذهب باتجاه الإغراق في "الكلاسيك" وبعد لحظة تقدم "الجاز" وهكذا..، وعليك أن تسير جنباً إلى جنب مع الفيلم وتنقل شعور الممثل فيه، وتنقل المشهد إلى المسرح عند العازفين ليقدموه ويصل كما هو إلى الجمهور، فهذا الاستخلاص كان صعباً جداً».
حوار مع الجمهور
وإن كان من أولويات الأوركسترا تعريف الجمهور على مقطوعات جديدة نادراً ما يتم تقديمها، يقول: «نقوم بعزفها، والجمهور يسأل عنها مما يفتح باباً للنقاش، ففي الحفل الماضي عزفنا الأعراس البلقانية، ووردتنا رسائل كثيرة تسأل عنها، مما ولّد حالة من الحوار بيني وبين العازفين والجمهور. وكان دافعي لعزف الأعراس البلقانية شعوري أن هناك ما لم يُعزف عندنا بعد، ونحن نستطيع عزفه. حتى أننا قدّمنا في الحفل نفسه مقطوعة "سوشيك" بتوزيع جديد، وقطعة تركية وأخرى يونانية، وقطعة يُقال أنها أرمنية وهي "سيناماري" بلقانية الأصل، وعزفنا أربع مقطوعات من بلاد الشام بتوزيع بلقاني، منها "يا ظريف الطول، علمايا"».
التوزيع الموسيقي
حول آلية تعاطيه مع المقطوعات وإلى أي مدى يسعون في "الأوركسترا" إلى ترك بصمتهم فيما يتعلق بالتوزيع الموسيقي، يقول: «أسأل نفسي بداية "هل هذه المقطوعة مناسبة وهل تمسّني؟ ما الذي تحتاجه؟ وهل يمكن التعديل عليها؟ ربما إن وضعنا آلة هنا قد تترك أثراً عند الجمهور"، وأبحث مع الموسيقيين وأستمع لعدة احتمالات، ندرسها لنقرر ما البصمة التي يمكن وضعها. فأعيد الكتابة والتوزيع، ولا أخاف لأن لدينا عازفين محترفين وأساتذة يمكنهم عزفها».
ويؤكد أن الأوركسترا قادرة على عزف الانماط الموسيقية كلها، لذلك يسعون إلى تحقيق التنوع فيما يقدمون ليوازنوا بين الأذواق المختلفة للناس، خاصة أن الجمهور بدأ يعرف الأوركسترا بشكل أكبر. ويشير إلى أن أية قطعة موسيقية يمكن عزفها على الآلات النفخية، حتى وإن كانت شرقية شرط ألا يدخل إليها "الربع تون".
خشبية ونحاسية
ويتحدث عن الآلات التي تضمها "أوركسترا النفخيات السورية"، يقول: «في قسم الآلات الخشبية هناك "الفلوت، الأوبوا، الكلارينيت، الباصون"، في حين تنتمي آلتي "السكسفون، الفرينش هورن" إلى الشقين النحاسي والخشبي، أما في قسم النحاسيات فهناك "الترومبيت، الترومبون، التوبا". ومعنا "البيانو" ضيف في الحفلات، كما يشاركنا "الكونترباص"، إضافة إلى مجموعة كبيرة من آلات الإيقاع».
وحول سبب الاستعانة بالبيانو والكونترباص والإيقاع، يؤكد أن لذلك عدة عوامل، فآلات الإيقاع ترافق الآلات النفخية دائماً، وتعتبر شريكة لها، وليس هناك من فرقة يمكن أن تقدم عملها دون آلات الإيقاع حتى وإن كانت وتريات. ويضيف: «كما يُعتبر "البيانو" لوناً يساعد على الدوزان، ومن الأهمية بمكان إضافة لمساته الجميلة في أية حفلة. و"الكونترباص" آلة تساعدنا في الأرضية وهي رفيق ألات النفخ. أما "الكمان والأكورديون والبزق" فهي آلات صولو، تقدم قطعة أو اثنتين في الحفل».
من أهم الفرق
عازف الفلوت والموسيقي المبدع "ماهر الداكشلي" أحد أعضاء "أوركسترا النفخيات السورية" تحدث عن الأوركسترا قائلاً: «كنت من أعضائها المؤسسين مع زملائي الأساتذة، بالإضافة إلى طلاب من المعهد العالي للموسيقا، وبعض العازفين من خارج المعهد. وموسيقيو الأوركسترا بينهم الأساسي وبينهم المتغيّر، لكنني من الأعضاء الدائمين».
ويؤكد أن الأوركسترا أثبتت وفي وقت قصير، من خلال ما قدمته من برامج متنوعة، أنها من أهم الفرق المحلية المتخصصة إلى جانب الأوركسترا "السيمفونية الوطنية" والأوركسترا "الوطنية للموسيقا العربية".
تلوين موسيقي
الموسيقي وعازف البيانو الدكتور ماريو بطرس الذي شارك في الحفلين الأخيرين للأوركسترا، يقول: «لم تكن "أوركسترا النفخيات" التجربة الأولى عالمياً، ولكنها الأولى سورياً، واستطاعت وضع بصمة هامة، وبالنسبة إلي كمستمع أستمتع جداً بما تُقدم، فمن خلالها نسمع الموسيقا بألوان جديدة. وعلى سبيل المثال "الكمان" يعزف و"الفلوت" يعزف ولكن لكل منهما لونه وسحره، وطريقة الإصدار الموسيقي المختلفة، وعندما نسمع موسيقا بتوزيع الآلات النفخية فإننا نسمعها بألوان جديدة وهذا أمر جميل ومغاير لما اعتدنا عليه».
ويشير إلى أن مشاركته "أوركسترا النفخيات" جاءت على مستويي التوزيع الموسيقي والعزف، حيث عزف في الحفل الأخير على البيانو، يقول: «البيانو لون يُضاف إلى النفخيات، وتتمثل قدرة المايستور في معرفته أين يمكن إضافة هذا اللون، وجاء البيانو ليضيف جمالية معينة أو يوصل رسالة ما، وبالتالي كان له دوره مع آلات النفخ في هذا المكان. فهو يعطي تلويناً أوسع للعمل الموسيقي، ويملأ الأرضيات "قاعدة البناء الموسيقي"، لأنه من الآلات التي تعطي الأساسات».