ولد الفنان حميد خلف "والذي حمل فيما بعد لقب البصري" في البصرة العراقية عام 1935، وعاش طفولة مؤلمة بسبب الفقر والحرمان، كان والده قائد فرقة تواشيح دينية في البصرة، فتدربت أذناه على الموسيقا منذ نشأته. وفي الوقت ذاته كانت هوايته كرة القدم، ووجدت فرقة موسيقية في نادي الاتحاد، فانجذب إليها، وتعلّم "العود" على يد "حسن تعبان"، و"القانون" على يد "لويس توماس". أتيحت للشاب "حميد" فرصة السفر إلى بغداد لدراسة الأرصاد الجوية، واستغل وجوده هناك لدراسة آلة "القانون" في معهد الفنون الجميلة، كما عزف مع الفرقة الشرقية بقيادة "حسام الشلبي" . بعد عامين عاد إلى البصرة، وقام فوراً بتأسيس "الفرقة البصرية" التي كان هدفها عزف وغناء نتاجات أعضاء الفرقة، وتطور عمل الفرقة في البصرة، وفي أول حفل لها في بغداد تم تقديم المطربة العراقية ذات الأصول الأرمنية "سيتا هاكوبيان" لأول مرة من خلال أغنية "الوهم"، من كلمات "نازك الملائكة" وألحان "حميد البصري".

الأوبريت

من المراحل الزمنية الهامة التي أمضاها في البصرة، فترة التحضير لأوبريت "بيادر الخير" الذي أنجز عام 1969، وهو أول "أوبريت" عراقي بشكله الأكاديمي. يقول في أحد لقاءاته: «هذه المرحلة الجميلة تبدأ من بداية فكرة الأوبريت واجتماعنا بالمخرج "قصي البصري" والفنان "طالب غالي" والكاتب "ياسين النصير" والشاعر "علي العضب"، واستمرينا عامين في التحضير للأوبريت».

وتلا أوبريت "بيادر الخير" أوبريتات أخرى، مثل أوبريت "المطرقة" وأنجز في العراق عام 1970، وأوبريت "أبجدية البحر والثورة" في اليمن عام 1982، أوبريت "زنوبيا" في سورية عام 1988.

حميد البصري

الرباعي الشرقي

حميد البصري

كان الفنان "حميد البصري" يعمل متنبئاً جوياً في مطار البصرة، وانتقل عمله إلى مطار بغداد، ليؤسس هناك "الرباعي الشرقي"، الذي ضم البصري على آلة "القانون"، طارق اسماعيل "كمان"، حسين قدوري "تشيللو" وخالد ابراهيم "فيولا"، وكان للرباعي دَوْرٌ أساس في مساعدة الملحن العراقي ذي الأصول الفلسطينية "روحي الخماش" على تأسيس "فرقة الإنشاد".

تموز للأغنية الجديدة

حصل "حميد البصري" على أولى شهاداته الأكاديمية التخصصية العليا من تونس عام 1976 وفي هذا العام بالذات شكَّل مع الشاعر "زهير الدجيلي" "جماعة تموز للأغنية الجديدة"، وفي نهاية سبعينات القرن الماضي، وبسبب الظروف السياسية، غادر "حميد البصري" العراق إلى عدة دول، أولى محطات رحلة الاغتراب كانت الكويت، وهناك سجل خمس أغنيات في المسلسل التربوي "افتح ياسمسم" وأشهرها "سبحان من خلق" بصوت الراحل "عوض دوخي".

حميد البصري في قرقة الطريق

ثم كان الانتقال إلى اليمن وشغل البصري هناك منصب نائب عميد "معهد الفنون الجميلة" في عدن بين عامي 1981 – 1984، ومدرس "القانون" و"الصولفيج العربي" فيه، وأسس فرقة "الغصون" لشبيبة اليمن وقدم لها ألحاناً جديدة عام 1983، كما شغل قائداً للفرقة الموسيقية لوزارة الثقافة في اليمن 1984.

فرقة الطريق

تمت استعادة فرقة "تموز" ولكن تحت اسم "فرقة الطريق"، وجمع فيها "البصري" الفنانين الموجودين في اليمن آنذاك: فؤاد سالم، سامي كمال، كمال السيد. وكانت تأتي الفرقة سنوياً إلى سورية وتسجل أغنيات في التلفزيون السوري عن الوطن والنضال الوطني الفلسطيني والنضال العادل في كل مكان في العالم.

فرقة الطريق

نالت الفرقة شعبية كبيرة لدى الجمهور السوري، الذي حفظ وردد أغانيها المفعمة بالحماسة والوطنية مثل: "هلا هلا هيا، نحبكم والله نحبكم، تدرون ليش نحب، يا عشقنا، ما نتنازل ما نستسلم، الفاكهاني، كفر قاسم، أهون ألف مرة، بيروت".

الاستقرار في سورية

بدأ الفنان الراحل "حميد البصري" وعائلته عام 1986 الاستقرار في "سورية"، وفيها عمل مع فرقة "زنوبيا" للفنون الشعبية، ومن خلالها قدم "أوبريت زنوبيا" وفيه تمت معالجة التاريخ بوقائع معاصرة، كما قام بتدريس فنون العزف على آلة "القانون" والموسيقا العربية في "المعهد العالي للموسيقى" بدمشق، وأسس "الأوركسترا العربية" للمعهد وتولى قيادتها، وكانت المرة الاولى التي يشهد فيها الجمهور حفلاً موسيقياً عربياً دون غناء، وشهدت الأوركسترا في عروضها اختيارات دقيقة لأعمال فيها توزيع هارموني وبصحبة مجموعة من طلاب المعهد شكلت فرقة غناء قدمت ألوان الغناء العربي كالموشحات وغيرها.

حميد البصري وزوجته شوقية العطا

كما شارك الأستاذ "البصري" في نشاطات أخرى فكان رئيس الوفد الفني السوري لمهرجان "طريق الحرير" في طوكيو "اليابان" 1987. وأسس فرقة للشبيبة السورية عام 1989 والتي فازت بالمركز الأول بأغنية من ألحانه، في مهرجان الشبيبة السورية. كما ترأس الوفد الفني السوري لمهرجان "أصيلة" في المغرب 1991. وشارك في مهرجان "بُصرى" بحضور عشرات الآلاف لأكثر من مرة، وشارك في مسرحية "العربانة" تأليف الشاعر العراقي الكبير "مظفر النواب" غناءً وتمثيلاً.

فرقة البصري

رحلة الفنان "حميد البصري" الأخيرة كانت إلى هولندا عام 1995، وهناك عرض إمكانياته في العزف على "العود" و"القانون" وقدم أكثر من حفل على الآلتين ، ولاقى استحسان الجهات الهولندية التي دعمت العروض وفكرتها الفنية، والتي بلغت 35 حفلاً على امتداد 4 سنوات في هولندا وبلجيكا.

صور عائلة تضم من اليمين رعد، حميد البصري، سامر، شوقية العطار، نديم

ومع لحاق رفيقة دربه الفنانة "شوقية العطار" به برفقة أولادهما، أعادوا تشكيل الفرقة لتصبح "فرقة البصري" والتي أراد لها تحقيق هدفين، الأول تغيير وجهة نظر الأوربيين في الغناء العربي والشرقي، والثاني ربط العراقيين بوطنهم من خلال تقديم الموروث العراقي من مقامات وأغنيات. وقد شاركت الفرقة عام 1998 في مسابقة الأغاني غير الأوربية ونالت الجائزة الأولى.

دكتوراه بدرجة امتياز

كان الفنان الراحل "حميد البصري" صاحب طموح متجدد، ولهذا قرر بعد أن تجاوز الخامسة والسبعين من عمره أن يحصل على الدكتوراه بدرجة امتياز، من جامعة لاهاي العالمية، وكانت الأطروحة التي قدّمها دراسة منهجية اعتمد فيها على تجربته الذاتية وقدّم فيها بحثاً نموذجياً في التحقيق والإبداع لينقل تعلّم دراسة المقام من الشفهية إلى الضوابط العلمية المسجلة، وليقدم إلى طلبة هذا الفرع من الدراسة أسلوب التعلم الأكاديمي الموثق.

كان الأستاذ البصري عضواً في نقابة الفنانين في العراق، وشغل رئيساً لرابطة بابل للكتاب والفنانين في هولندا، ونائباً لرئيس البرلمان الثقافي العراقي في هولندا وعضواً في جمعية الموسيقيين الهولنديين الملكية وعضواً في نقابة الفنانين في هولندا.

كما أثرى المكتبة الموسيقية العربية بكتب نذكر منها: «أغان شعبية عراقية – 100 أغنية نصوص ونوتات، قراءة وكتابة الموسيقى العربية، تمارين لآلة القانون، تاريخ وتذوق الموسيقى العربية، الموسيقى وواقعنا الاجتماعي».

وله أبحاث موسيقية نذكر منها: «سلالم الموسيقا العربية وأجناسها، جنس الحجاز في المقام العراقي، آلة الناي في الموسيقى العراقية، ابتكار جنس موسيقي جديد باسم "جنس راست بصري"، الخصائص الموسيقية والابداعية للموروث الغنائي العربي وآفاق تطوره – العراق نموذجاً، المقامات العراقية- دراسة تطبيقية وتحليلية في المنهاج وفي الاعلام».

العمود الغنائي في مشروع "البصري"

أما بالنسبة للفنانة "شوقية العطار"، شريكة درب البصري والعمود الغنائي الأساسي في مشروعه الموسيقي، فقد بدأت الغناء منذ منتصف خمسينات القرن الماضي، حيث قدمت أغنيات افرادية لأشهر مطربات ذلك الزمن، مثل "أم كلثوم، أسمهان" وغيرهما في العديد من الحفلات المدرسية في مدينة البصرة، وكانت أول أغنية خاصة بها عام 1959 من ألحان الفنان "حميد البصري" الذي تزوجها بعد ذلك بفترة قصيرة.

بوجودهما معا تدربت "شوقية العطار" على مختلف أنواع الغناء العراقي والعربي، وانتقلت عام 1971 مع عائلتها إلى بغداد. وأصبحت عضواً في فرقة "الإنشاد" العراقية التابعة للتلفزيون في بداية تأسيسها كمغنية انفرادية وجماعية. واكتسبت من ذلك خبرة في غناء الموشحات، وفي منتصف السبعينات، سجلت مع الفنان "فؤاد سالم" الأغنية الثنائية الشهيرة “يا عشقنا” من ألحان زوجها "حميد البصري" والتي كانت أول أغنية ملونة يبثها التلفزيون العراقي.

وتلقّب العطار بـ"قارئة المقام"، ولديها أيضاً عدد كبير من الأغاني الخاصة بها مثل: "اللول لوه، اشتقنالك يا نهر، اسهرنالك دهر".

عائلة البصري

أنجب "حميد البصري" و"شوقية العطار" أربعة أولاد وبنت واحدة، نديم الابن الأكبر وهو عازف "كمان" و"فيولا"، رعد الابن الثاني وهو مؤلف موسيقي يعيش في سورية واكتسب جنسيتها، وهو أيضاً عازف "كمان" ومؤسس فرقة "زرياب" الموسيقية وأوركسترا "ماري"، أما الابن الثالث فهو سامر الذي تخصص في الإخراج المسرحي الغنائي في موسكو، والابن الرابع "أور" تخرج من أكاديمية ملكية في هولندا قسم الغرافيك، وأخيراً بيدر التي صار لها اسمها الفني في عالم الأغنيتين العراقية والهولندية، وهي عضو أساسي في فرقة "البصري" حيث أنها ورثت من والدتها صوتها الجميل، وما زالت تحمل إرث العائلة الفني بصوتها وتقديمها حفلات في دول أوروبية عدة.

الرحيل المُؤلم

في السادس والعشرين من نيسان عام 2022 نعت "بيدر البصري" والدها الكبير الذي رحل عن عالمنا بعد صمود باسل وطويل في وجه المرض، فقالت: «الأب.. المعلم.. الصديق.. عاش شجاعاً.. ومات شجاعاً.. وداعاً يا أبي».

أما ابنه الموسيقار رعد خلف فقال عبر أحد اللقاءات: «فقدانه كبير بالنسبة إلي، لأنه المرآة التي أرى فيها نفسي إن كنت "صح أم لا"، وأي عمل سمعه لي، كان يعطيني ملاحظة، ودائماً بشكل لطيف، فقدانه كبير، لكن جملة الملاحظات والوصايا، لا تزال في رأسي، وأنا سأبقى ملتزماً بهذه المدرسة».

كما نعى الفنان الراحل الكثيرون ، معتبرين رحيله خسارة كبيرة للفن العراقي الأصيل، ومن الناعين القاص والروائي العراقي "محمد خضير" الذي قال: «لطالما كانت الموسيقا تطابقاً هارمونياً مع نظام الكون. ولقد حاول الموسيقار "البصري" عبر موسيقاه "للأغاني الشعبية والأوبريتات" أن يقترب من هذا النظام، عبر دمج الجزء الفاعل من شخصيته في الكل المفعول من صورة العالم. لكن هذا "التقارب/الامتزاج" سيختلّ كثيراً برحيل الموسيقار "البصري" عن هذا العالم، كما لم يختلّ في أثر مسموع أو مكتوب. إنه افتراق سيضرّ كثيراً بمغزل الموسيقا الدائر حول مكان ما من العالم منذ عصر أفلاطون» .