عازف عودٍ مُحترف، والاحتراف توصيفٌ لا يأتي هنا اتكاءً على نيل وسام العلي درجة الماجستير في التربية الموسيقية من جامعة دمشق، وتدريسه لآلة العود والغناء الشرقي في كلية الموسيقا في جامعة البعث، فحسب، إنما لتأسيسه أيضاً أول أوركسترا للعود في سورية "صدى"، وهو إنجازٌ يُحسب له، كخطوةٍ مُتقدمةٍ تجاه الآلة التي يُحبّ، نحو مشروعٍ موسيقيٍّ جدي، بالتوازي مع هاجسه الدائم بصناعة موسيقا بعيدة عن السائد والمُكرر، دون الوقوع في مطب الاستسهال والدارج.
الخطوات الأولى
نشأ العلي في بيتٍ يستمع إلى الموسيقا الأصيلة بأنواعها، العراقية والمصرية والرحبانية اللبنانية، ولأن والده كان عازفاً للعود، أحبّ الآلة وتعلّم العزف عليها حين كان عمره 6 سنوات بشكلٍ سماعي.
ويُضيف في حديثٍ إلى "مدوّنة الموسيقا": "حفظت بعض الجمل الموسيقية البسيطة من الوالد، ومع استمرار المحاولة تطورت علاقتي مع العود، وتراكمت المحفوظات في ذهني، وبسبب عدم توفر مُدرّس في مدينتي يملك منهاجاً أكاديمياً مُتكاملاً لتعليمي، اعتمدت على السماعي حتى أنهيت دراسة البكالوريا ودخلت المعهد العالي للموسيقا".
هكذا، ارتبط اسم العلي ومستقبله بآلة العود، لكنها لم تفرض عليه التزاماتٍ موسيقية بقدر ما أتاحت له من فرصٍ للاطلاع والاستزادة، يقول أيضاً: "على عكس ما يُقال عن آلة العود، فقد كانت بوابةً للتعرف على ثقافات وموسيقا العالم، من خلال دراستها في المعهد، إضافة إلى اهتمامي بالعود الصولو، والذي سمح لي بالتعرف على مدارس الآلة في الوطن العربي، حتى تكون رافداً فنياً لمقطوعاتي، يُحقق لي ميزة التنوع في التأليف".
أوركسترا العود
في الأعوام اللاحقة، برز اسم العلي كعازفٍ موهوب، وتعددت مشاركاته محلياً وعربياً، في مهرجانات الموسيقا وفي العزف المنفرد مع عدد من الأوركسترات والفرق، ثم كان تأسيسه أوركسترا العود "صدى"، غير المسبوقة في سورية لجهة التخصص، والمؤلّفة من طلابه، ممن درسوا وتفوقوا في معهد "صدى" الذي أسسه في مدينة حمص، يشرح العلي: "الأوركسترا هي الأولى للعود في سورية، تقوم على التوزيع لثلاثة أو أربعة أدوار موسيقية، وفي الوقت نفسه تستخدم أسلوباً موحداً، وهي تجربة جديدة مع العود في التكنيك أيضاً، أي مع الكتابة لحركة الريشة خلال العمل الموسيقي بشكل متماثل بين العازفين، وهذا ما سعيت لأعمل عليه كمنهجٍ تدريسيٍّ للآلة".
قدمت "صدى" مجموعة حفلات إلى أن تفرّق أعضاؤها بسبب الظروف التي مرت بها البلاد في السنوات الأخيرة، لكن التواصل بينهم لايزال قائماً كما يُؤكد العلي، على أمل أن تعود الأوركسترا لنشاطاتها.
وصولاً إلى الجمهور
الوصول إلى الجمهور والاستحواذ على اهتمامه ومتابعته، ليس سهلاً أبداً في مشوار أي موسيقي، ويحتاج كما يرى "العلي" إلى توفر الموهبة والشغف والعشق لموسيقاه التي يُقدمها للناس، عدا عن أن الموسيقا بحد ذاتها تتطلّب تراكماً سمعياً كبيراً، مع الدراسة ومحاولة إيجاد جملة جديدة، تحمل طابعاً خاصاً يستحق عرضه للجمهور، أما بالنسبة له كعازف عود صولو، يقول لـ "مدوّنة الموسيقا": "ينبغي أن أكون مُستمعاً جيداً للموسيقا بشكل عام، وللمقطوعات المؤلّفة على آلة العود بشكل خاص، بحيث تشكّل جميعها عندي مورداً لإنتاج جملة مُبتكرة، كنتيجة لتداخل السماعي ومحاولة التعبير عن بعض الموضوعات، كما يُضاف إلى ما سبق، مهمة كبيرة أمام عازف العود عموماً، جوهرها المحافظة على أصالة وهوية الآلة، مع التمتّع بثقافة موسيقية، تسمحان معاً بإمكانية استخدام الآلة بطريقة تُواكب التطور الموسيقي الحاصل وتحترم شخصية وخصوصية العود".
مدرسة سوريّة للعود
يسعى العلي لإعداد مدرسةٍ سوريٍّة لها خصوصيتها في ميدان العود، وعلى ما يقول، فالمدرسة العراقية استخدمت الآلة بشكل تعبيري، في حين ذهبت نظيرتها المصرية نحو الحالة الطربية في مقطوعات العود الصولو، لذلك فهو يجتهد لإيجاد موقعٍ لبلده بين الحالتين المعروفتين، وفي هذا السياق يستعد كعازفٍ ومُؤلّفٍ، لإطلاق ألبومه الأول "رحلة في البحار الأربعة".
كما يعمل كمُدرّسٍ للآلة، لتقديم ما يُسميه "منهجاً تفاعلياً"، تم تجريبه وتعديله في السنوات السابقة مع عددٍ كبيرٍ من طلابه "والكلام لعلي"، وهو يختصر عدد سنوات طويلة من الدراسة لعازف العود في المناهج التقليدية، بحيث تُعطى المعارف والمعلومات في عام واحد مقسومة لجزأين، الأول يُعنى بالتحضير كقاعدة أساسية خلال الأشهر الستة الأولى، ومن ثم الانطلاق باتجاه استخدام المعطيات بشكل مُحترف في الأشهر الستة التالية، لنصل في النتيجة إلى قاعدة معرفية للطالب، يستطيع من خلالها تطوير نفسه ذاتياً بعد عامٍ فقط من الدراسة.
مع الطلاب والعازفين
عازف العود وأستاذ الموسيقا زرياب الهاشمي، واحدٌ من طلاب "العلي"، تحدث لـ "مدوّنة الموسيقا" عن علاقتهما، واصفاً إياه بالأخ والصديق، حيث تعدت العلاقة معه صفة الأستاذ والطالب، يقول: "عرفت وسام العلي كموسيقيٍّ فذٍ مبدع، يبتعد عن الطرق الصارمة في التعليم باتجاه استيعاب خصوصية كل عازف، رغم صعوبة ذلك مع عدد كبير من الطلاب لكلٍّ منهم مشكلة أو حكاية أو ظرف، ليُخرج أفضل ما لديهم، كذلك كان تعاطيه أثناء التمارين على درجةٍ من الاحترافية، فهو يهتم بأدق التفاصيل والجزئيات، وهذا يدفع أي عازف للاطمئنان بأنه يختبر مستوىً عالٍ جداً من العمل الموسيقي، كما أن جميع العازفين من طلابه في "صدى" هم أساتذة في مجالهم".
وعن علاقته بالأوركسترا يقول: "ما يجمعنا هو الشغف، ويُفترض أن يكون ثمرة التعب والاجتهاد وجودنا على أهم المسارح، لكن للأسف معظمنا غادر سورية، وإن كنا نأمل في الاجتماع مجدداً، طالما أن الشغف لا يزال حاضراً".
منهجية حقيقية للآلة
المايسترو وعازف العود "سليمان مامو"، وأحد طلاب "العلي"، استعاد بدوره أسلوب العزف في "صدى" وشرح لـ "مدوّنة الموسيقا": "عملنا في أوركسترا العود على توحيد طريقة عزف الريشة بهدف تحقيق تجانسٍ صوتيٍّ وأسلوبٍ مُوحدٍ للآلة، كما قمنا بتوزيع أدوارٍ مختلفة للعود بشكل مبتكر، وأجرينا العديد من البروفات لتحقيق انسجام عالٍ وتوحيد صوتي، وذلك كله من أجل منح آلة العود هوية سورية مميزة، حيث نواجه نقصاً في مدرسة منهجية حقيقية لتعليم العود".
وعلى الرغم من تفرق العازفين في دول مختلفة بسبب الظروف، إلا أنهم حافظوا على نهجٍ واحدٍ مُتفقٍ عليه من حيث الأسلوب والطابع، وديناميكية العزف وطريقة التفكير بآلة العود وتدريسها، يقول مامو: "نسعى من خلال هذا الجهد إلى إنشاء مدرسةٍ تُعنى بتعليم العود، تجمع بين الأصالة والتجديد، وتُساهم في نشر التراث الموسيقي السوري وتعزيز مكانته على الساحة العالمية، بالطبع تتطلب هذه الجهود تنسيقاً عالياً بين العازفين، وتفانياً في التدريبات الجماعية والفردية، وقد ساعدنا هذا النهج في خلق نوعٍ من الوحدة الفنية، ما يعزز من هوية العود كآلةٍ موسيقيةٍ لها طابع خاص، ويُبرز الإبداع والتنوع الموجودين في التراث الموسيقي السوري".