في التجلي صلاة، وفي الموسيقا السورية الأصيلة تجلي، تأخذ المستمع في رحلة إلى الماضي العريق، عبر مقامات تلامس برهبتها الروح، فرق موسيقية غنت وعزفت إرثنا الموسيقي، في مهرجان دلبة مشتى الحلو الثاني عشر للثقافة والفنون، بعنوان "الثقافة السريانية" الذي أضاء بشكل خاص على الموسيقا السريانية.
تجليات نوري اسكندر
حاورت "مدونة الموسيقا" المايسترو "ميساك باغبودريان" قائد الفرقة السيمفونية الوطنية السورية، الذي قاد مجموعة من الموسيقيين أساتذة وخريجي طلاب المعهد العالي للموسيقى، لإحياء الأمسية الموسيقية بعنوان "تجليات نوري اسكندر".
استعرض "باغبودريان" بداية أبرز الملامح الموسيقية التي ميزت أعمال الملفونو "نوري اسكندر" المستلهمة من الموسيقا السورية القديمة بشكل عام، وهي أعمال موسيقية تتحدث بلغة معاصرة غايتها العثور على حلول هارمونية تعدد أصوات المقام، وتفكيك المقام من شكله التقليدي إلى شكل جديد، تركيب ألوان موسيقية وهارمونيات، والبحث عن الانسجامات والتنافرات في الصوت، إضافة إلى شكل الجملة الموسيقية وتركيبتها.
ويشير إلى أن معظم أعمال "اسكندر" استلهمت من الجذور باتجاه المستقبل مروراً بخياله وإبداعاته، ولا بد من الإشارة إلى جهوده في توثيق ألحان الموسيقا السريانية من خلال كتابة الألحان، حيث وثق اللحن وكتبه حسب مدارس الرهى "وهي مدرسة سريانية" وتأثره بهذا التراث، ليكون أي منتج نسمعه نتيجة معالجة باطنية داخلية في خياله وروحه وعلمه، لتظهر موسيقاه بلون جديد، نواته الموسيقا السورية والسريانية .
المحافظة على التراث الموسيقي
برأي "باغبودريان" توجد الموسيقا السريانية في عدة مواقع، فقد تواجدت في الكنائس على شكل تراتيل وترانيم تتبع للطقوس الكنسية، سواء الطقس الأرثوذكسي أو الكاثوليكي، أو في الموسيقا الشعبية المتواجدة في منطقة الجزيرة، أو في مناطق وجود السريان بشكل خاص، وهي فعلياً جزء من الموسيقا السورية، ناهيك على وجود أغان تُغنّى بألحان سريانية، مستمرة باستمرار الانسان، بوسائل متعددة، منها التناقل الشفهي أو من خلال التوثيق المكتوب أو المسجل، وبالتالي من الأهمية بمكان دوام هذا الإرث والمحافظة على شكله أمام التشويه الذي اخترق التراث السوري بشكل عام نتيجة عدة مؤثرات، ويوضح أن الخوف يكمن أمام ابتلاء الموسيقا السريانية بالتشويه، مما يستدعي التوثيق والحفاظ على شكل التراث الأصلي.
وبرأيه ان الموسيقا تتبع الحياة، كالعديد من الممارسات الحياتية اليومية، والدليل توارثنا لبعض العادات السريانية في طعامنا، والأسماء السريانية لبعض القرى والمدن، مما يعكس حياة الإنسان وانتقال مشاعره وأعماله، المنتقلة عبر التراث للأجيال اللاحقة.
أمسيات كورالية
قدم كورال "أرجوان" في مهرجان الدلبة عدداً من الأعمال السريانية، باعتبار الموسيقا السريانية جزء من التراث الانساني العالمي بشكل عام، ومن تراثنا السوري بشكل خاص، فتم تقديم بعض الترانيم، بالإضافة إلى أغان دنيوية عاطفية للأرض والإنسان، والكورال حريص دائماً على تقديم أغنية سريانية أثناء فعالية عالمية أو برنامج غناء شرقي.
عن ذلك يقول قائد الكورال المايسترو "بشر عيسى": «أحاول تقديم ما هو جديد ومتناسب مع مستوى المهرجان ومع العنوان العظيم، لذلك قدم "الأرجوان" الأغنية السورية عبر التاريخ، وكان البرنامج شبيه بلوحة بانورامية صغيرة تضمنت 12 أغنية من الحضارات التي تعاقبت على سورية، بدءاً من الآرامية، الآشورية، أوغاريت، الحضارة الهيلينية على زمن الدولة السلوقية بين القرنين الثالث والأول قبل الميلاد، وفيما بعد الحضارة العربية، كذلك تم تقديم مقاطع من التراث السوري، وتمثلت بالقدود والموشحات، وأغاني تراثية سورية».
وقاد "عيسى" أيضا كورال "سيدات النغم" بمرافقة فرقة التخت الشرقين، وكانت بعنوان "قدود وموشحات وأغاني سورية"، المدرجة في منظمة اليونسكو على لائحة التراث الانساني منذ سنتين، وهي امتداد للموسيقا السريانية في سورية، ومعظم الأغاني الشعبية المتداولة هي ألحان ضاربة في القدم، مستوحاة من الموسيقا السريانية الموجودة، وهذا التقارب نتاج تطور طبيعي للفكر البشري والموسيقى.
ملامح موسيقية خاصة
يؤكد "عوض" في حديثه عن كورال "أرجوان" أن ما يميزه الملامح الموسيقية الخاصة به، فمنذ البداية تصدى لإقامة كورال متعدد الأصوات، فالموسيقا العربية تطورت بشكل غنائي فردي، ولم تتطور لتؤسس موسيقا كورالية على عكس الموسيقا الأوروبية التي ظهر فيها الكورال منذ 600 أو 700 سنة، عبر الكنيسة بداية، ثم انفصل الكورال عن الكنيسة ليصبح فرقة موسيقية بحد ذاته يقدم الحفلات الموسيقية، وللأسف كانت ثقافتنا بعيدة عن هذا المنحى.
يقسم كورال "أرجوان" إلى أربع مجموعات صوتية مؤلفة من "الأطفال واليافعين والكبار" وفق الطبقة الصوتية للذكور والسيدات، وتميّز الكورال بمحاولته نشر ثقافة الموسيقا الجادة، لذلك تقدم الفرقة عادة باقات من أجمل الأعمال الكورالية العالمية ابتداء من عصر النهضة الأوروبي مروراً بعصر الباروك، الكلاسيك، الرومانس، العصر الحديث، والموسيقى المعاصرة كالجاز والروك والبوب، وأيضاً موسيقانا الشرقية التراثية وفلكلور وتراث الشعوب، ليتعرف الناس على موسيقا الشعوب بشكل كامل، والرائع أن معظم أعضاء الكورال من الهواة، ودائماً النتيجة تكون احترافية.
ترانيم سريانية
من الأصوات التي برزت في أمسيات مهرجان الدلبة "لاميتا إيشوع" طالبة المعهد العالي للموسيقى في قسم الغناء الشرقي، والتي عبّرت عن سعادتها بالمشاركة في أمسية "تجليات نوري اسكندر"، وأكدت تأثرها بالطقس الكنسي السرياني الذي شكل شخصيتها الموسيقية، مما ساعدها على بناء قاعدة موسيقية راسخة.
وأوضحت "إيشوع" لـ "مدونة الموسيقا" أنها تجد سهولة في الربط بين النمطين العربي والسرياني بسبب التقاطعات بين المقامين السرياني والعربي. مشددة على أهمية الحفاظ على الإرث السرياني "من أقدم حضارات العالم"، وذلك من خلال التحدث بالسريانية والحفاظ على الإرث الموسيقي الخاص بها، وهو يقتصر للأسف على شريحة محدودة تهتم باللغة والتراث. ودعت وسائل الإعلام إلى الاهتمام أكثر بنشر هذا النمط الموسيقي، فهي ترى أن المدارس الموسيقية لم تعنَ بالموسيقا السريانية بشكل خاص ولكن التثقيف الموسيقي العام يفيد الطالب حتماً.
قدمت "إيشوع" في المهرجان ترانيم سريانية، مؤكدة سعادتها بالتفاعل الذي حظيت به الأمسية رغم قلة تداول هذا النمط. كما أشادت بجمال المكان الذي احتضن الأمسية، وهو معمل "الحرير"، حيث أضفى الموقع بجمالياته طابعاً خاصاً على الحفل .
ختامها مشتاوي
اختتم المهرجان لياليه الثلاث بحفل فني أحياه ابن المشتى المطرب "جورج خوري" الحاضر دائماً في جميع دورات المهرجانات، حيث قدم الأغاني الكلاسيكية والطربية، وعبّر عن مدى فخره بالمستوى الذي وصلت إليه الفعالية في منطقته، بجهود جميع أعضاء الملتقى والأهالي الدؤوبين على نجاحها، فالغاية هي إحياء التراث بأنواعه والترفيه وتنشيط السياحة الداخلية في المنطقة.