لطالما كانتِ النَّواعير، وخاصّةً الموجودة في مدينة حماة "وهي الأشهر"، محطَّ اهتمام مبدعي وموسيقيي وشعراء أبناء مدينة "حماة"، فصوتُ عنين "الناعورة" له نغمتُه الخاصّة ووقعُه على أهل المدينة الذين يطربونَ له، ويشكّل في أحد أوجهه هويةً للمكان، فكان لـ "الناعورة" حضورٌ في التراث الحموي، لا بل هذا المعلم الذي يعبقُ أصالةً وتجذُّراً في المكان غنّى له مطربون عرب أيضاً، لأن شهرته تجاوزتِ الحدودَ الضيّقة.
عنين الناعورة
اقترنَ اسمُ المدينة بعاصيها ونواعيرها، ومن الأسماء التي أُطلِقت عليها "مدينة النواعير، أم النواعير"، تلك "النواعير" التي تعزفُ سمفونيتها الخالدة بشكلٍ يوميٍّ، وكانتْ على مرِّ العصور مُلهِمةً للشعراء والموسيقيين والفنانين.
ومن المطربين الذي تغنَّوا بها "معن دندشي" /1927 – 2011/ الذي قدَّم أغنيته "سمعت عنين الناعورة"، وغنَّاها من بعده العديد من المطربين، ومنهم "سميرة توفيق وفؤاد غازي ووفيق حبيب وفرقة تكّات".
وعن خصوصية ونسب هذه الأغنية، تحدث الباحث والموسيقي الدكتور "فراس يعقوب آغا" لـ "مدونة الموسيقا" قائلاً: «حسب ما استطعتُ جمعَه من معلوماتٍ، فالأغنيةُ من كلمات وألحان "معن دندشي"، وهي ليستْ من الفلكلور والتّراث الحموي، وتعود إلى ستينيات القرن الماضي، انتشرتْ وشاعتْ بين الحمويين خاصّة والسوريين عامّة، وأصبحتْ من أهمِّ الأغاني التي تناولتِ "الناعورة والعاصي"، وتغلغلتْ في وجدان وذاكرة المجتمع الحموي وغناها الكثير من المطربين».
يقول مطلع الأغنية:
سمعت عنين الناعورة
عنينها شغلي بالي
وهي عنينها ع الميه
وأنا عنيني ع الغالي
أوف يابا.. يابا يابا
التراث الحموي
من أهم الموسيقيين والمطربين الذين قدّموا أعمالاً من التّراثِ الحمويِّ الراحلُ "نجيب السراج" /2003-2023/، وممَّا قدَّمه أغنيةُ "الناعورة" التي لحّنها وغناها في ستينيات القرن الماضي. وغنَّاها في حفلِ صوتِ العرب الأوّل الذي أُقيمَ في صالة ريفولي بالقاهرة "17 حزيران 1960"، ويقول مطلعها: "ناعورة ع العاصي تعن.. من يوما وهي بتأن".
جسَّدتِ العديد من الأعمال مكانة "الناعورة" عند الناس، حيثُ تغنّوا بها وبصوتها، وشاطرتهم أفراحهم وأحزانهم، وارتبط بها "الأنينُ والدموعُ والحزنُ" عبر العديد من الأغنيات، وكأنَّ المياه التي تنقلُها وتهطلُ منها تشبهُ الدّمعَ، فكانتِ الملجأَ وبيتَ أسرار المحزون والمحبوب ومن يشتكي لها همومَه، الأمرُ الذي يمكن ملاحظته في أعمالٍ غنائيّةٍ عدّة، ومنها ما غناه المطرب "مازن السفاف" عبر "الموال" أو "الأغنية".
وممَّا قدَّمهُ المطربُ "مازن السفاف" أغنية "يا ناعورة"، التي يقول مطلعها: "عني يا ناعورة عني.. ع المحبوب اللي راح مني، راح وطول الغيبة، خلا عيوني سهراني". وفي عملٍ غنائيٍّ آخرَ جاء بعنوان "يا ناعورة حاجة تعنّي"، يقول:
يا ناعورة حاجة تعنّي
وتزيدي بروحي الجراح
أنت عنينك على المي
وأنا عنين علّي راح
مطربون عرب
شدا لـ "الناعورة" العديدُ من المطربين العرب، ومنهم المطرب "وديع الصافي" الذي قدَّم أغنية "الناعورة"، وجاءتْ من ألحانِه، يقول مطلعها:
عالناعورة حس دبيك.. مدري فرخا ومدري ديك
ترغلي عم بتملي.. بتسقيني والك ما بتسقيك
امان يا بنت العم
كما غنَّى لها الفنان "مروان محفوظ" أغنيةَ "ديو" جمعته مع "نوال الكك"، ضمنَ البرنامجِ الغنائيِّ "دفاتر الليل" للأخوين رحباني، والذي صُوَّر حينها بالأبيض والأسود في تلفزيون لبنان، تقول كلمات الأغنية في مطلعها: "يا ناعورة شوي شوي رح تخلص المي.. هلق بتجي الغندورة بدها تملي خطي".
"الناعورة" رمزٌ للحياة
الشاعر "أنس الحجار" له العديد من القصائد التي تغنَّت بالناعورة، ومنها أبياتٌ تمَّ تلحينها وغناؤها، حيثُ يؤكِّدُ في حديثه لـ "مدونة الموسيقا" خصوصيةَ "الناعورة" عند الحمويين، فيقول: «هي رمز للحياة، لأنَّها تنقل المياه "الحياة" من الأماكن المنخفضة إلى الأماكن المرتفعة، هذا من ناحيةٍ ومن ناحيةٍ أخرى، فجمالُها في شكلها الهندسي الدائري المتين، الذي يرمز للدوران المستمرِّ وكأنَّها تتحدَّث قائلةً "إنني باقية"، واجتماعُ الشكل مع المياه والصوت الذي يكون حزيناً لكلِّ حزين، وسعيداً لكلِّ سعيدٍ، ينعكسُ هذه الرؤية عند الحمويين وغير الحمويين ممّن يرون هذا السّحر العجيب، والأكثر تأثُّراً هم السكان المحليون، لأنَّ هذه اللوحة تلامِسُهم يوميّاً، فتكونُ لوحة "الناعورة" للشعراء هي الملهمةُ، وللملحنين المقام، وللعشاق الحبيبة، وللأطفال الأمّ، فترى الأطفال يسعون نحو أمّهم "الناعورة" والشوق يسبقهم، وترى الشعراء والملحنين يستلهمونَ منها الشعر والموسيقا، وترى العشاق يتغزلون بحبيبتهم "الناعورة"، ممَّا يتجلى في فنونهم مناغاة أطفال وقصائد شعراء وأغاني موسيقيين ولوحات الفنانين».
انعكاسٌ للجمال
ويشير الشاعر "أنس الحجار" إلى أنَّ هناك الكثير من القصائدِ التي كُتِبت لـ "الناعورة" عبرَ العصور، ويقول: «ما نسمعُهُ ونشاهدُهُ من فنونٍ تَرسم "الناعورة" ما هو إلا انعكاسٌ لجمالها، إذْ يمكننُا القول بأنَّ السكان المحليين من شعراء وموسيقيين وعشّاق وأطفال هم مرآةُ هذا الجمال، يعكسه كلٌّ منهم بطريقته». مؤكِّداً أنَّه شاعرٌ يتذوَّق الموسيقا بروحه. لكنْ كلّ ما قيل في "الناعورة" يلامس روحه وهذا دلالةٌ على أنَّ كل ما قيل فيها جميلٌ.
وعن القصيدة التي كتبها بعنوان "القصيدة الحموية" يشير إلى الأبيات التي تمَّ تلحينها منها وتحكي عن "الناعورة"، وقُدِّمت كأغنية على مسرح "دائرة الثقافة" في عيد الثقافة في "حماة"، وجاءت الأغنية من ألحان الفنان "مهند المصري" وغنائه، ومن أبياتها نذكر:
هِيَ في البكاءِ وفي الغِناءِ شجيةٌ.. هِيَ قِصّةٌ وسطورُها أخشابُ
ناعورةٌ تختالُ في دورانِها.. والحبُّ من أعطافِها ينسابُ
أسرتْ قلوبَ العاشقين بسحرِها.. وإلى مدَاها حجَّتِ الأغرابُ
النهرُ يلثمُها ويمضي هائماً.. ويراودُ النهرَ العشيقَ إيابُ
أغانٍ انتشرت وأخرى لم تنتشر
حول ما قُدِّم من أغنياتٍ عن "الناعورة" تحدَّث الباحثُ والموسيقيُّ الدكتور "فراس يعقوب آغا" لـ "مدونة الموسيقا" قائلاً: «ممَّا لا شكَّ فيه أن "نهر العاصي" و"الناعورة" كانا حاضرين في قصائدِ شعراء حماة وأغانيها، وبعضُها انتشر وبعضُها لم يلقَ حظَّه من الانتشار لسبب أو لآخر، فالراحلُ "نجيب السراج" غنَّى للعاصي وللنواعير، ويعدّ من أهم من قدَّم فنَّاً حموياً ارتقى ليصبحَ تراثاً وفولكلوراً حموياً، وأيضاً قدَّم "معن دندشي" أغنيته المشهورة "سمعت عنين الناعورة" التي أصبحتْ أغنيةً خاصةً بمدينة "حماة" وانتشرت في جميع أرجاء سورية».
ويلفتُ إلى أنَّ هناك أغانيَ عن "الناعورة" للأطفال، ويقول: «كان لفن الطفل نصيبٌ من أغاني "العاصي والناعورة"، فقدَّم المرحوم الشاعر "عبد الرحمن النعيمي" "أوبريت" غنائياً للأطفال بعنوان "أحلام البستان"، ألحان "موفق يعقوب آغا" وإخراج "يوسف نعمة"، تناول فيها فكرةَ أهمية المياه والنواعير في حياة البساتين، وكانَ ذلك في مطلع ثمانينيات القرن الماضي ضمنَ فعاليات "مهرجان طلائع البعث"، كما كتبَ الشاعر "أحمد خنسا" أغنية للأطفال عن "الناعورة" بعنوان "دوري يا ناعورة" من ألحان "موفق يعقوب آغا"».
ويتابع: «كما نظم الشاعرُ "أنس الحجار" قصيدةً عن الناعورة والعاصي، ولحَّنها "مهند المصري" وقُدِّمت على مسرح قصر الثقافة في حفل افتتاح عيد الثقافة في "حماة" عام 2019، وقدَّمها منتدى الإثنين الموسيقي، وقُدِّمت في مهرجان الناعورة الذي أقامته مديرية ثقافة حماة عام 2020». ويشير إلى أنَّ "عبد الكريم الكيلاني" قدَّمَ في مهرجان حماة "1997" أغنيةً عن الناعورة "أحلى ورد وأحلى ناس"، من كلماتِه وألحانِه، وقدَّمتها فرقة نادي الفارابي.
كلمات وألحان سهلة وسلسلة
وعمّا امتازتْ به هذه الأغنيات، يقول الدكتور "فراس يعقوب آغا": «امتازتِ الأغاني التي تناولتِ "الناعورة والعاصي" بجمالية خاصّة عكستِ البيئةَ الحمويّةَ، فالكلماتُ والألحانُ كانت ذات طابعٍ حمويٍّ سهلةً سلسلةً متداولةً، يفهمها الكبيرُ والصغيرُ، الأميّ والمتعلّمُ وعمومُ الناس، ما جعلها تدخلُ سمعَ وقلبَ ومشاعرَ المتلقي وتداعب وجدانَه وأحاسيسَه، بإيقاعٍ نشيطٍ ومقامٍ موسيقيٍّ محبّب، يجسِّدُ علاقة الحب بين الناعورة والعاصي ومدينة حماة وأهاليها».
وحول سؤال "هل يمكن القول بأنَّ عنين الناعورة كان ملهماً للإبداع؟"، يجيبُ قائلاً: «جمال مشهد الناعورة والعاصي وصوتُ دوران الناعورة المميّز، كانَ ملهماً للشعراء والفنانين التشكيليين والملحنين والمطربين وأصحاب الحرف اليدوية والمبدعين عموماً في تجسيدِ ذلك بفنونِهم على اختلافِها، فتناولُوا جميعَ أحوال "الناعورة ونهر العاصي"، من وفرةِ مياهٍ وشحِّها ودورانِ وعنينِ الناعورة أو توقُّفِها».
الموال والعتابا
فيما يتعلَّق بالمواويل والعتابا المُرتبطة بـ "الناعورة"، يقولُ الدكتور "فراس يعقوب آغا": «كان لناظمي الموال والعتابا نصيبٌ بالتغزُّل بالناعورة والعاصي وتصوير حالاتها، ومن أشهر ناظمي الموال المرحوم "خالد جمية وعلي خلوف جرابات ومحمود عربش وعزو الساكت"، ويُعدُّ "خالد جمية" أوّلَ من نظم الموال في "حماة"، حوالي عام "1960"، وحالياً يُعدُّ "غزوان جمية بن خالد جمية" الناظم الأوحد لفن الموال في حماة، وشاهداً على فنِّ الموال فيها، وقدْ تناولَ ناظمو الموال في حماة "العاصي والناعور" في مواويلهم كما تناولُوا ورصدُوا واقعَ الحياةِ الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وبعض هذه المواويل تمَّ غناؤها وقُدّمتْ في بعض الحفلات». ويذكر أمثلة عن ذلك، منها موال نظمه الراحل الزجال "خالد جمّية"، يقول فيه:
هضبات وادي حما خضر المروج ظْهِراً
أزهارها عاطره للقاصدين ظهراً
فيها المناظر سِحِر ما تولي ظْهِراً
العاصي يجري بها يروي للظمأ ألماس
أغصان دوحاتها داعبها نسيم الماس
إن كنت تشكي سقم أو صاب جسمك ماس