بقيت الكثير من الأغاني الوطنية محفورة في الذاكرة يرددها الجميع في المناسبات المختلفة، وقدمت في مجملها معاني خالدة مُتجددة تسمو بالإنسان وتمجد التضحيات التي بُذِلت في سبيل الوطن متغنية بالأمجاد والانتصارات. مشددة على قيم مشبّعة بالنبل والرفعة والشموخ والأنفة والإباء، ملتقطة في الحروب والشدائد والانتصارات مفردات تنسج منها ألحاناً وكلمات تترجم اللحظة بحميميتها وعمق صدقها، فجاءت في الكثير منها أعمالاً فنية جادة تحمل سمة البقاء.

برنامج الأمسية

ضمن هذا الإطار أحيت الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية بقيادة المايسترو "عدنان فتح الله" أمسية بعنوان "وحدن بيبقوا"، على مسرح الأوبرا في "دار الأسد للثقافة والفنون"، بتاريخ السابع عشر من شهر تشرين أول عام 2024.

شدت خلالها بباقة من أجمل الأعمال الغنائية والموسيقية الوطنية، من بينها ثلاث أغانٍ أُدِّيت بشكل "سولو"، في حين حمل "الكورال" الجزء الأكبر من البرنامج الغنائي.

الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية أمسية وحدن بيبقوا

بدأت الأمسية بعزف الأوركسترا لمقطوعة "موسيقا نشيد القسم" لموسيقار الأجيال "محمد عبد الوهاب"، فأغنية "وطني يا جبل الغيم الأزرق" للسيدة "فيروز" كلمات وألحان الأخوين رحباني، وتم تقديم أغنيتين لـ "جوليا بطرس" من ألحان زياد بطرس، هما "مقاوم" كلمات "جواد نصر الله"، و"أطلق نيرانك لا ترحم" كلمات "نبيل أبو عبدو"، وأغنية "أنا سوري وأرضي عربية" لـ "مروان حسام الدين" تأليف وتلحين "إيلي شويري"، وأغنية "سيفٌ فليُشهر" كلمات الشاعر "سعيد عقل" وألحان الأخوين رحباني، أما لـ "زكي ناصيف" فغنّوا له واحدة من أجمل أغانيه "مهما يتجرّح بلدنا".

وتم غناء ثلاثة أعمال "سولو" هي "أصبح عندي الآن بندقية" بصوت "سيلفي سليمان"، وهي كلمات الشاعر "نزار قباني" وألحان "محمد عبد الوهاب" وغناء "أم كلثوم"، وأغنية "وحدن بيبقوا" بصوت "سناء بركات" وهي كلمات الشاعر "طلال حيدر" وألحان "زياد الرحباني" وغناء "فيروز". ثم قُدِمت أغنية "هيدي فلسطين" بصوت "رمّاح شلغين" تأليف "جهاد أبي خليل" وألحان "زياد بطرس" وغناء "معين شريف"، أما الختام فمع أغنية لـ "ميادة بسيليس" بعنوان "يا جبل مايهزك ريح" ألحان "سمير كويفاتي" وتأليف "سمير طحان".

الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية أمسية وحدن بيبقوا

أغانٍ محفورة في الذاكرة

المايسترو عدنان فتح الله

تم انتقاء أغانٍ وطنية محفورة في القلب والوجدان لتُقدم ضمن الأمسية، فكيف تم اختيار هذه الأعمال؟ يقول المايسترو "عدنان فتح الله" لـ "مدونة الموسيقا":

«أتت الخيارات انطلاقاً من المبدأ الذي نعمل على أساسه، وهو أن أي عمل موسيقي يُقدم لا بد أن يلامس الناس. فضم البرنامج تحية للجيش العربي السوري، وتحية للمقاومة، وتأكيداً على حق العودة لفلسطين، كما أن هناك الانتصارات التاريخية في "حرب تشرين التحريرية"، خاصة أن الأمسية أتت في شهر "تشرين أول"، وبالتالي كان من الواجب أن يرتبط البرنامج بهذه الأحداث، عبر أغانٍ ملاصقة لذاكرتنا، والعنوان العريض لرسالة الحفل جاءت عبر الكلمتين الأخيرتين فيه، بأن "كل شي رايح والحق آتٍ"، فصاحب الحق هو من ينتصر في النهاية رغم الصعوبات كلها، وكان هناك تحية للتضحيات التي تُقدم اليوم للوصول إلى هذا الحق».

الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية أمسية وحدن بيبقوا

ويشير المايسترو "فتح الله" إلى أن الأغاني قُدِمت بإحساس عالٍ بالوطن، كحال أغنية "وطني يا جبل الغيم الأزرق" التي غناها الكورال، ومن الأعمال التي تؤكد على المقاومة أغنية "أصبح عندي الآن بندقية.. إلى فلسطين خذوني معكم"، التي غنتها السيدة "سيلفي سليمان" وهي من القصائد الهامة جداً، وبالتالي هذه الأعمال كلها تحوي رسائل واضحة، وتلامس إنسانيتنا، وتستنهض المشاعر تجاه أرضنا وبلدنا والقضية الفلسطينية وجنوب لبنان.

الدور الإنساني للموسيقا

فيما يتعلق بتوقيت الأمسية وسط ما يجري اليوم من أحداث في المنطقة، وعن دور الموسيقا في الحروب والأزمات، يقول: «ليس هناك وقت محدد للموسيقا والثقافة، كما أنه ليس هناك وقت محدد لقراءة كتاب أو مشاهدة فيلم سينمائي. وأرى أن للموسيقا دوراً كبيراً يكاد يكون أكبر بكثير من دور القطاعات الأخرى، فدورها المهم إنسانيّ، ويمكن إيصال الرسالة والكلمة عن طريق الموسيقا بشكل سهل، لأنها مادة نحبها كلنا ونتأثر فيها، وبالتالي هي ضرورة وحاجة في الأوقات كلها، ولكن من المهم أن تحمل هدفاً ورسالة، وتنبع من رحم أوجاع الناس وما يعيشونه، واليوم نحن بحاجة للتأكيد على قضيتنا وانتمائنا، وهذا يظهر من خلال الموسيقا، وهكذا كانت الأمسية».

الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية أمسية وحدن بيبقوا

الكورال صوت الناس

فيما يتعلق بـ "الكورال" الذي قدم معظم أغاني الأمسية، يقول: «دائماً وجود "الكورال" يجعل الأغاني الوطنية تظهر بشكل مميزة، فهو يمثل صوتنا "صوت الشعب"، وكان معنا ثلاثون مغنياً ومغنية، إضافة إلى "السولو" لأن هناك أغانٍ كان من الضروري أن تُقدم "سولو"، فأغنية "وحدن بيبقوا" من الصعب أن يغنيها الكورال، ليس مستحيلاً ولكن الأمر يتطلب جهوداً كبيرة على مدى أشهر، وجاءت أغنية "أصبح عندي الآن بندقية" شراكة بين الأوركسترا والكورال الذي كان له دور مختلف عن "السولو"، فكان دوره درامياً بحيث يجاوب "السولو"، وكذلك الأمر بالنسبة لأغنية "هيدي فلسطين" ففيها شيء من العنفوان والإحساس العالي، ويُفضل أن تكون "سولو"، ولكن "70%" من الحفل كان غناء لـ "الكورال" لأنه يعبّر عن الناس».

ويلفت المايسترو "فتح الله" إلى أن "الكورال" كان صوتين في بعض الأغاني، وصوتاً واحداً في أغانٍ أخرى، وهناك توزيعات بين لون صوت الشباب ولون صوت البنات.

سمات الأغنية الوطنية

حول سمات الأغنية الوطنية الناجحة والمؤثرة، يقول: «مما لا شك فيه أن "الأغنية الوطنية" مادة موسيقية تحتمل النجاح أو الفشل عند الجمهور، فهناك الكثير من الأغاني التي قًدمت، ولكن لا يمكن القول أنها كلها بمستوى "راياتك بالعالي يا سورية" أو "أنا سورية وأرضي عربية"، ولكن في حال كانت الأغنية ناجحة وكلماتها مؤثرة وأتى لحنها موازياُ للقيمة الفكرية للكلمات، وتم تأديتها بشكل جيد، فبالتأكيد سيكون لها أثر مهم». موضحاً أن الأغنية الوطنية كانت حاضرة في الكثير من الأحداث والحروب، وأحدثت أثراً لا يُستهان به في المجتمع.

اللحن المؤثر

يلجأ العديد من الملحنين إلى موسيقا "المارش العسكري" لتكون أساس تلحينهم للأغنية الوطنية، بغض النظر عما تحمل الكلمات من معنى، عن هذه الظاهرة يقول المايسترو "عدنان فتح الله" لـ "مدونة الموسيقا":

«هناك الكثير من الأغاني الوطنية لحنها ليس "مارش عسكري"، كحال أغنية "وحدن بيبقوا" وأغنية "وطني يا جبل الغيم الأزرق"، كما أن "في قهوة ع المفرق" للسيدة "فيروز" أغنية وطنية لأنها تستنهض شعوراً وطنياً مهماً، وقدّم "طاهر مامللي" شارة مسلسل تُعد أغنية وطنية "حطي الملح فوق الجرح.. يا شام.. وافركي الليمون..". وبالتالي لحن الأغنية الوطنية مرتبط بالمعنى الذي تحمله، وليس شرطاً أن يكون "مارش عسكري"، والذي يُعد نوعاً من أنواع الأغنية الوطنية، وهو مطلوب، ففي مكان ما قد تحتاج رسالة الأغنية فعلاً لهذا الضغط الموسيقي والطاقة لإيصال معانيها».

ويتابع: «أغنية "أنا سوري وأرضي عربية" فيها "مارش عسكري" في البداية وفيها أيضاً مقطع طربي "راست" يأخذك لمكان آخر، والأمر نفسه في "شام يا ذا السيف"، وفي أغنية "راياتك بالعالي يا سورية" يبدو واضحاً من كلماتها التقطيع من ناحية العروض والموسيقا واللحن والايقاع المُستخدم، وهناك أغانٍ وطنية قدمناها في الحفل كانت في قمة الرومانسية والهدوء وأتت بطريقة ساحرة».

سِمة البقاء

قُدِّمت في الأمسية أغنيات وطنية قديمة ولكنها لاتزال حاضرة بعنفوانها وألقها وطزاجتها، فما الشروط الواجب توافرها في العمل الفني ليحمل سمة البقاء؟ يجيب المايسترو "عدنان فتح الله" في حديثه لـ "مدونة الموسيقا" قائلاً: «سمة بقاء الأغنية بشكل عام، أكانت وطنية أم عاطفية أم إنسانية أم للأطفال..، الكلام المنسوج والمكتوب بطريقة مهمة، وما تحمله من معانٍ إضافة إلى اللحن "المتعوب عليه". إلا أننا نسمع اليوم أغنيات وقتية مدتها أربعون يوماً فقط، ويأتي من يقول أن مدة الأغنية ستصبح "دقيقة ونصف"، شأنها شأن "الريلز" المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي هناك عقلية مختلفة تقول "لا نريد للأغنية أن تعيش"، والمطلوب أغنية تحمل المتعة وتصب في المجرى التجاري، مما يعني أن الأغاني التي تحمل سمة البقاء ويمكن أن تبقى خالدة لم تعد مرغوبة بالنسبة لأصحاب رؤوس الأموال وشركات الإنتاج المسؤولة عما تصدّره لنا».

ضد التيار

حول إمكانية مواجهة هذا التيار والوقوف في وجهه، يؤكد أنهم يفعلون ذلك من خلال ما يُقدمونه من أعمال، يقول: «في وزارة الثقافة والمعهد العالي للموسيقا ودار الأوبرا هناك ملحنون ومؤلفون موسيقيون يلحنون قصائد ويوزعون أعمالاً هامة، يأتي الجمهور ليحضرها لأنه يحبها، ولكن عندما تطرحها في السوق فهي "غير بيّاعة". وأذكر هنا أنني لحنت أبيات من قصيدة "قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا" للشاعر "أحمد شوقي"، وسمعها "1200" شخص فقط، هم الذين حضروا الأمسية في دار الأوبرا، لأنه ليس لدي إمكانية تسجيلها، فالتكلفة باهظة جداً. لذلك أقول أن الأمر يحتاج إلى خطة وفريق، ليكون هناك تيار يجابه تيار أجده مبتذلاً، ولكن اليد لوحدها لا تستطيع التصفيق، فما نريده هو فن ملتزم بمبادئ ومعايير ومقومات معينة، ولتحقيق ذلك نحتاج شركات إنتاج وطنية معنية بالإنتاج الموسيقي، فهناك إنتاج تلفزيوني وسينمائي، ولكن ليس هناك إنتاج موسيقي رغم أنه غير مُكلف».

ويشير في نهاية كلامه إلى خوفه على التراث، فعلى سبيل المثال اليوم نادراً ما يعود أحد ليستمع إلى حفلة للراحل "صباح فخري" من عام 1970، يقول: «نريد التوجه إلى الجيل الجديد، ليستمع إلى التراث بتسجيلات جديدة، وكاميرات وتقنيات تواكب اهتماماته، وتمتلك عناصر الجذب، وإلا سنخسر، خاصة أن هناك مشاريع "للأسف" تُخرّب بالتراث».