بدأ ظهور فنِّ الغناء وانتشاره في مدينة "حمص" مع أواخر القرنِ التَّاسع عشرَ ومطلعَ القرن العشرين، ونتيجةً لما فرضَهُ الاحتلالُ العثمانيُّ على المنطقة العربية جمعاء، وما تركه من أثرٍ مظلمٍ عليها، فقد شكَّلتْ ظاهرةُ الغناء تحدِّياً لطبيعة المجتمع الحمصي آنذاك. وفيما يلي استعراضٌ مكثَّفٌ للحركةِ الغنائيّةِ التي شهدتْها "حمص" على مدار أكثر من مئة عام حتَّى يومنا الحالي، وأهمّ الأصوات التي أثَّرت فيها، وقدَّمت التُّراث الغنائيَّ العربيَّ الأصيلَ وحافظتْ على ديمومته.

الإنشاد الديني.. والدنيوي

للتعرُّف على بدايات ظهوره وأهمِّ روَّاده تحدث لـ "مدونة الموسيقا" الفنان والباحث الموسيقي "أمين رومية" رئيس فرع "نقابة الفنانين" في مدينة "حمص"، قائلاً: «اقتصرتْ ممارسةُ الغناء بداية على حفلات الإنشادِ الدينيّ التي كانتْ تُقام في المساجد وبيوت ميسوري الحال، وكانتِ الموسيقا المرافقةَ له من خلال بعض الآلات الإيقاعية التراثيّة الشعبيّة معْ مرافقة آلة "الناي" أحياناً، نظراً لتحريم وجود الموسيقا معه، إضافةً إلى منع مشاركة النساء في تأديته، وذلك كلُّه يمكنُنا إدراجه في خانة "الغناء الديني"، البعيد كُلًّ البعد عن مفهوم "الغناء الدنيوي" الذي نجد فيه حضوراً للآلاتِ الموسيقيّة الشرقيّة إلى جانب المغني أو المطرب. ومع مطلع القرن العشرين بدأ ظهورُ بعض المغنين في مدينة "حمص"، ومنهم: "غالب الملوحي ونجيب زين الدين ومحمد الشاويش وعبد الواحد الشاويش وعبد الخالق عبارة ومحمد منيا بقلاوة وخالد القصيِّر وعبد الرحمن الزيات" وآخرون غيرهم».

المصدر الرّئيس والتأثّر بالخارج

ويشير الفنانُ "رومية" إلى أنَّ أشعارَ الشيخ "أمين الجندي" كانتِ المصدر الرّئيس لما قدّمه أولئك المطربون، فقد برعَ في نظم الشعر الموزون المقفّى، الذي يتناسب استخدامه للتلحين الموسيقي والغناء، ومن أهمِّ مؤلفاته الشعرية الغنائية "القصيدة التوسلية".

الفنانة القديرة هيام داغر

وبتابع قائلاً: «بعض المطربين الحمصيين كانوا يتردَّدون على مدينة "حلب" بشكل دائم، فتأثَّروا ببعض مطربيها، وبما قدّمُوا من أشعار الموشحات والقدود والأدوار ومنهم "محمد الشاويش"، الذي تأثر كثيراً في نتاجات الملحِّن "عمر البطش" ونقلها إلى مدينته، وبدأ انتشارها يتوسَّع من خلال حفلاته الخاصّة. كما بدا التأثُّر بمطربي "مصر" مثل "عبدو الحمولي" و"محمد عثمان" واضحاً فيما كانوا يقدَّمونه من أعمال غنائيَّة، إضافةً إلى نتاج بعضهم الخاص الذين جمعُوا فيه ما بين مقدرتي التأليف الشعري والتلحين الموسيقيّ، مثال ذلك: المطرب "نجيب زين الدين" الذي زار "مصر" وتأثَّر بمطربها "أمين حسنين" حتّى بات مقلِّداً لأسلوبه لاحقاً خلال حفلاته الخاصّة، واتَّصفتْ أعمالُه الغنائيّةُ بالبساطة "كما هو حال الأغنية الحمصيّة عموماً"، من موشحات وقدود و"طقطوقات" طويلة نوعاً ما، عاكسةً فيها بساطة المجتمع الحمصي وأبنائه، نجدُ ذلك في بعض أغانيه المشهورة، مثل: "تعال لعندي يا نور عيوني والنبي أنا مشغول بحبك"، وكذلك "كووا الألباب بالميلي وهدُّوا بالنوى حيلي"».

ويوضح أنَّ أعمالَ المطربين الحمصيين تأثرتْ أيضاً ببعض الأغاني التي كانت شائعة في مدينة "حماة" المجاورة، ومن بينها أغنية "أنا في سكرين من خمر وعين" التي ألَّفها الشاعر "بدر الدين الحامد" ولحَّنها "سري الطمبورجي" صاحب أقدم وأوّل تسجيل لها في الإذاعة السوريّة عام "1944"، وتُعدُّ من بين أهمِّ القصائد المُغناة التي راجت كثيراً في "حمص" خلال تلك الفترة "وحتَّى يومنا هذا"، ويبيّن أنَّ أبرز من غنَّاها المطرب "عبد الواحد الشاويش" صاحب أقدم تسجيل صوتي لها، وكذلك "إبراهيم العباس" و"ممدوح الشلبي" وغيرهما من المطربين الحمصيين، يقول: «بشكلٍ عام هذه أهمُّ تفاصيل الحركة الغنائيّة في حمص خلال النصف الأول من القرن العشرين».

الفنان والباحث الموسيقي أمين رومية
الفنان محمود الصالح

النوادي الفنيِّة والحراك الغنائي

الفنان عبد المعين مرزوق

أسهم وجود نوادٍ فنِّية عدّة في مدينة "حمص" في تعزيز مسيرة الحركة الغنائيَّة. وللتعرُّف أكثر على أهمِّ الأصوات الغنائية التي برزتْ في تلك الأندية، تحدث لـ "مدونة الموسيقا" الممثل المسرحي "محمود الصالح" أحد أعضاء نادي "دوحة الميماس" الذي أُسّس عام "1933" قائلاً:

«لم تبرز أسماء معيّنة مع بداية التأسيس والفترة التي تلتها، وإنَّما هناك بعضُ المطربين الذين كانوا يتردَّدون على النادي ويقدِّمون للمغنين فيه المشورة الفنِّية، ومنهم على سبيل المثال المطرب "نجيب زين الدين" و"عبد الرحمن الزيات" ومعهما "محمد الشاويش"، وكانوا من المطربين البارزين في مدينة "حمص" بدايات القرن العشرين. ولاحقاً برز اسم الفنان "برهان صباغ" كأحد أهمّ مطربي الموشحات والأدوار والقدود وعازفي "العود" في فرقة النادي خلال الخمسين عاماً الماضية حتى وفاته عام "2022". وممّا تسعفني به الذاكرة، أن هناك أصواتاً جيدة سجَّلت حضورها على الساحة الغنائية، خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومنهم "عبد الكافي أحمد وإيلي حموي ودريد لبابيدي"، وتلا ذلك في الثمانينيات مطربون بارزون، مثل "محمد صنوفي وغازي شيخ السوق"، ومن الجيل اللاحق "حسام زكريا وموفق الشمالي" اللذان لا يزالان يمارسان الغناء إلى الوقت الحالي».

الفنان الموسيقي مروان غريبة

أسماء غنائيّة بارزة

الفنان أنور سمعان عندليب سورية

ويتحدّث ل "مدونة الموسيقا" الفنان الموسيقيّ "عبد المعين مرزوق" عازف الكمان وقائد فرقة نادي "الخيام" الموسيقيّة الأسبق عن أهمّ الأصوات الغنائيّة التي كانتْ موجودةً في تلك الأندية، يقول: «برزت أسماء كثيرة على الساحة الغنائيّة الحمصيّة، اشتهرتْ معظمُها بتأديةِ الغناءِ الطربيّ عموماً، أذكر منها المطرب "عبد الواحد الشاويش" الذي ذاع صيته خلال تلك الفترة الزمنية وما قبلها، وهو من الأصوات القادرة جداً، ومن عازفي آلة "العود" المتمكِّنين، وتميَّز بحضورٍ لافتٍ مع فرقته الخاصة، من خلال ارتدائهم الزيَّ الرسمي مع "الطربوش" الأحمر، وهذا الأمر شهدتْه عن قرب في طفولتي أثناءَ إحيائهم إحدى الحفلات سنة "1957" إن لم تخني ذاكرتي. ومنَ الأصواتِ الغنائيّةِ القادرةِ والتي كانت حاضرةً في ذات الحقبة نذكر أيضاً "عبد الرحمن الزيات" والمطرب الشعبي "محمد ديب عكاش"، إضافة إلى المطرب "أديب الطش" أو "أبو مروان الطش" - كما كان لقبه الدارج حينها - والذي برز حضورُه مع فرقته في الحفلات الخاصة فقط كما الآخرين الذين ذُكروا».

ويتابع: «في الفترة اللاحقة بعد انتسابي عام "1963" إلى صفوف نادي "الخيام" والعمل ضمن فرقته الموسيقية وتسلُّم قيادتها منذ فترة السبعينيات وحتى سنة "1990"، أستطيع تعداد أهم الأصوات الغنائية التي عرفتُها عن كثب، وكانتْ بارزةً في ناديي "دار الألحان" و"الفنون" قبل دمجهما، وما بعده حين أصبح اسمه "دار الفنون"، وأذكر منها "نصر الدين البدري"، إضافةً إلى المطرب الراحل "غازي شيخ السوق" صاحب الصوت المقتدر والمشهود له في تأدية "الموشحات" بشكلٍ متميِّز رغم عدم معرفته لأصول الموسيقا، إلَّا أنَّه كان حافظاً سمعياً متمكناً منها. ومن الأسماء البارزة أيضاً "أيمن السقا، أحمد الأنصاري، محمد الصنوفي"، إلى جانب "سليم عماري" الذي كان يمتلك صوتاً رخيماً وقوياً، وتميَّز بأداء أغاني الراحل "محمد عبد الوهاب"».

المطرب نجيب زين الدين

أصوات قادرة وفريدة

شهد الرّبعُ الأخيرُ من القرن العشرين بزوغَ أسماء العديد من المطربين المتميِّزين، إلى جانب ظهور أصوات نسائية عديدة، كما جاء على لسان الموسيقي وعازف "الكمان" الفنان "مروان غريبة" حيث قال:

«تميَّزتْ أصواتهم بالقدرة والمساحة الواسعة ما بين طبقات القرار والجواب، إضافةً إلى ثقافتهم الموسيقيَّة. وهنا أبدأُ الحديثَ عن "سامي الخوري" المطرب الراحل الذي كان يمثِّل بمدى معرفته وسعة اطلاعه مكتبة موسيقيّة مُكتملة رغم كونه ضريراً، عدا عن عزفه المقتدر على آلة "العود"، وسمحت له إمكانياته الصوتية الكبيرة بأداء التراتيل الكنسية البيزنطية، والغناء لساعات طويلة دون انقطاع وجهد. وهناك صوت آخر مهمّ شهدته الحركة الغنائيّة في مدينة "حمص"، صاحبه المطرب الراحل "سمير عماري" الذي يُعدّ "حسب رأيي" أحد روَّاد الفن الراقي والملتزم، فكان مثقفاً موسيقياً وعارفاً متمكّناً من خفايا الألحان والمقامات الموسيقية، وانعكس ذلك كلُّه في الأداء المتميز والخاص الذي كان يؤدّيه أمام الجمهور. كما أنّ الراحل "مروان سالم" هو الآخر من المطربين المتميزين الذين أثبتُوا جدارتهم على الساحة الغنائيَّة الحمصية خاصة والسورية عامّة، وهو من القلائل الذين قدَّموا أعمالاً غنائية خاصة ومسجَّلة في إستديوهات الإذاعة والتلفزيون، متميّزاً بأداء الأغنية الطربية الجبلية، وخصوصاً لأعمال العظيم الراحل "وديع الصافي" والذي أثنى عليه كثيراً وقتها».

يتابع كلامه: «وهناك مطربٌ آخر عملتُ معه كان متميّزاً في غناء الموشحات والقصائد والموال، هو "فوزي نعمة" صاحب الصوت الجميل والعذب ويعدُّ من الأصوات المهمّة التي عرفتها مدينة "حمص"، ولا ننسى بكل تأكيد المطرب الراحل "ياسر السيد" والمعروف باسم "ياسر المظلوم"، وهو الآخر واحدٌ من المطربين المتميزين الذين أدُّوا الموشحات والأدوار بتمكُّن واقتدار. ومن المطربين المميزين الذين عرفتهم المدينة أذكر الفنان "أنور سمعان" صاحب الصوت الفريد الذي برز اسمه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ولُقِّب ب "عندليب سورية" نظراً لرقة صوته، والشبه بين صوته وصوت الراحل "عبد الحليم حافظ"، وله العديدُ من الأعمال الغنائيّة الخاصّة المسجَّلة في أرشيف الإذاعة السوريّة. وهناك العديد من الأصوات الطربيّة التي لا تزال موجودةً على الساحة الغنائيّة الحمصيّة حالياً، ومن أهمها أذكر المطرب "مصطفى دغمان" الذي تميَّز بغناء التراث الشرقي الأصيل، إلى جانب الطرب الشعبي، وسجَّل بصمته الخاصة على مستوى مطربي المدينة، إضافةً إلى صوت طربيٍّ آخر هو الفنان "عمار العبد" الذي أعدُّه من الأصوات الجيدة والمدعومة بثقافة موسيقيّة واسعة، إلى جانب تمكُّنه كعازفٍ على آلة "العود"».

الأصوات النسائية.. الظهور النادر

وحولَ أهمّ الأصوات النسائيّة التي شهدتْها الساحةُ الفنِّية الغنائية يقول الفنان "مروان غريبة": «كانتْ شحيحةً جداً، وأغلبُها ضمن الفرق الكورالية، مثل "دلال العبد الله، ربى بطيخ، اكتمال حاماتي، ميادة العيسى، زينة غريبة"ـ وجميعهن برزنَ من خلال وجودهن مع فرقة "نادي نقابة المعلمين" التي أسّسها الراحل "محي الدين الهاشمي" والتي تسلَّمت قيادتها لبضع سنوات بعد وفاته. ومن أهم الأصوات النسائية التي عرفتها وعملت معها، المطربة "هيام داغر" التي كانت تتمتَّع بمساحة صوتية واسعة وقادرة جداً، واشتهرت بأداء الأغاني الطربية خصوصاً، ولكنها لم تأخذ نصيبها من الشهرة التي تستحقّها للأسف الشديد، واعتزلتِ الغناء في وقت مبكِّر. كما برز أيضاً اسم "حلا نقرور" كواحدة من الأصوات النسائية القادرة والراقية، والمصقولة بثقافة موسيقية أكاديمية، والتي لا تزال موجودة على الساحة الفنيّة الغنائيّة حتى يومنا هذا، متميَّزةً بمحافظتها على تقديم الغناء التراثي الشرقي الأصيل».