أنشأ أكثر من فرقة موسيقيّة، وهدفه "إحياء التراث" وتقديمه بإطاره الصحيح المُتوارَث بنغماته ومقاماته وروحه ونبض إحساسه، إنَّه عازف القانون المايسترو "صلاح قباني"، الذي يُعبّر عن هاجسه عبر التأكيد على أهمية التوثيق الموسيقيّ، حيثُ أنشأ بداية فرقة "الدراويش الشامية" ومن ثم فرقة "الموسيقى العربية لإحياء التراث".
تأثير البيئة
المنبعُ الأساسي لشغفه في إحياء ونشر التراث الموسيقي، جاء بدايةً من ترعرعه في منزل يعشق النغم الأصيل ويبحث في توثيقه، وفي حديثه لـ "مدونة الموسيقا" يشير إلى أنَّ اسمه الحقيقي "محمد صالح بن محمد عربي القباني" أمّا لقبه فـ "صلاح القباني"، تخرّج في كلية الهندسة الكهربائية، وترافقت دراستُه مع دراسة الموسيقا في "المعهد العربي" الذي بات اسمه فيما بعد "معهد صلحي الوادي"، حيثُ تتلمذ في دراسة العزف على آلة "القانون" على يد الموسيقي الراحل "سليم سروة".
ويتابع القول: «كان منزلنا أيام والدي "الشيخ محمد عربي القباني" لا يخلو أسبوعياً من جلسة موسيقيّة طربية، وقد حضرتُ الجلسات كلَّها، وممن كانوا يشاركون فيها أذكر الوشاح والمنشد "مسلّم البيطار" والمنشد "سليمان داوود" والمنشد "توفيق المنجد" والملحن "زهير المنيني" وعازف الكمان "أمين الخالدي"، وعازف القانون "رجب خلقي"، وعازف العود "أبو الشكر الحنبلي". وكان في جيب والدي دفترٌ صغيرٌ يسميه "الكشكول" يسجّل ويوثّق فيه كلّ ما يسمعه من الموشحات، وفي السنوات العشر الأخيرة من حياته، قام بتألف كتاب "جامع النفحات القدسية"، جمع فيه الموشحات "الدينية والأندلسية"، فأرشفها ووثّق كلمات كلّ موشح وإيقاعه ووزنه ومقامه الموسيقي، وبات هذا الكتاب مرجعاً أساسياً لكلِّ من يريد أنْ يقدّم موشحات».
سهرات طربية
وحول نهله من كتاب والده "جامع النفحات القدسية"، وحمله شعلة الموسيقا، يقول: «بعد وفاة والدي أخذت كتابه "جامع النفحات القدسية"، وقرّرتُ تجديد نشاطي الموسيقي بعد توقّفي عنه لمدة عشرين عاماً، فاستقطبتُ الموسيقار "عدنان أبو الشامات"، والملحن "زهير المنيني" والمايسترو "أمين الخياط"، وبتْنا نقيم جلساتٍ أسبوعيةً، نشتغل خلالها موشّحاً أو اثنين من الموشحات الموجودة في الكتاب. وممن كانوا يحضرون معنا أذكر عازفي الكمان "راغب مرادني وأنور دياب آغا ورشاد أبو شامة" وعازف العود "أبو أيمن الزرزور" نقيب الخطاطين وعازف الناي "بشار أبو شامة" وغيرهم الكثير، وكنا نقدم المعزوفات في سهرات طربية، وأوثّق هذه السهرات، فيأتي أصدقاؤنا من حلب ويسمعون ما أنجزْنا، ويرسلون لنا ما أنجزوه، وكأنّها منافسةٌ فيما بيننا وبينهم، الأمر الذي شجّعني على الاستمرار بشكل أكبر، وتشكيل فرقة لنُظهِر للناس ما نقوم بتقديمه من أعمال».
الظهور الأول لـ "الدراويش الشامية"
قام المايسترو "صلاح القباني" بتأسيس فرقته الأولى "الدراويش الشامية"، ويشير في حديثه لـ "مدونة الموسيقا" إلى أنَّه في حفله الأوّل توجّه إلى مديرية المسارح والموسيقا وطلب إحياء الحفل، وهذا ما كان عام 2010، حيث أحيَتْ فرقة "الدراويش الشامية" حفلها الأوَّل على خشبة مسرح "الحمراء" وقدّم الحفل آنذاك المذيع "علاء الدين أيوبي"، يقول: «كانتْ صالة مسرح "الحمراء" ممتلئة بالحضور، وأذكر أنَّ كثيرين حضروا الحفل واقفين، لأنّ المقاعد امتلأت. وأنجزنا بعدها مجموعةً من الحفلات التي امتاز كل منها ببرنامج جديد ومختلف عن الآخر».
وفيما يتعلَّق بطبيعة الفرقة وما تقدّمه من أعمال، يقول: «قدّمنا الموشحات الدينية، وكان معنا فريق من "الميلوية". وأيّ عمل نتصدّى لإنجازه كان يُدرس بشكل كامل، حيث ندرسه من الناحية اللغوية وتناسق الكلمات، ومن الناحية الموسيقيّة وتناسب المقام مع الكلمات، ومن الناحية الإيقاعيّة، وكان معي العازف "جمال السقا"، إضافةً إلى آخرين من نقابة الفنانين، ومنهم "عمار يونس" وهو من كبار عازفي "الكمان"، و"موفق الدهبي" من أهم عازفي "التشيللو" في الوطن العربي، و"إبراهيم الدهبي" عازف "كونترباص" لا مثيلَ له».
أصعب وأهم الموشحات
ويتابع حديثه قائلاً: «أنشأْنا الفرق على أساس تقديم "اللونغا والبشرم والدولاب والسماعي"، وكانتِ الفكرة الأولى لها أن تكون "فرقة موسيقيّة" فقط، ولكن أتى منشدون وشجعونا وأدوا معنا. ومنذ الحفل الأول كان معنا المنشدان "عمر السروجي" وابنه "غسان السروجي"، حيث أدى "عمر السروجي" الغناء "سولو" مع فرقته الكورالية التي تضمّ خمسة مردّدين، في حين كنت أقود الفرقة الموسيقية، وقوامها خمسةَ عشرَ عازفاً. وفي فترة لاحقة انضمّ إلينا المنشد والقارئ "عبد الرحمن الكردي" وكان حينها في بداياته، ويتمتّع بصوت جميل وأداء جيد وإيقاع مهمّ، لكنّه سافر خلال فترة الحرب، وحينها حدثتْ حالةٌ من الفتور في الفرقة. ولكن التقيتُ بالوشاح والمنشد "عبد الرحمن عبد المولى" فتابع معنا، وقدّمنا أعمالاً مهمّة، واشتغلنا خلالها أصعب الموشحات، بما فيها الإيقاع المركب "الإيقاع 24"، عبر موشّح "كلما رمت ارتشافا"، وهو من أجمل وأرقى الموشحات».
ويوضح أنّهم كانوا يقدّمون في فرقة "الدراويش الشامية" كلّاً من "الموشح والموشح الديني والقدّ والابتهال"، يقول: «المرجع الأساسي لنا كتاب "جامع النفحات القدسية"، إضافةً إلى كتاب "من كنوزنا" الذي تجد فيه مقامات مكتوبة ومنوطة، كمقام "السوزناك" وهو مقام مركّب ومؤلّف من مقامي "الرصد" و"الحجاز"، وهناك أيضاً مقام "الزنجوران"، وهو مؤلّف من مقامي "العجم" و"الحجاز"، وكنّا نأخذ منه ونصحّح الأخطاء ونقدّم الأعمال».
بصمة موسيقيّة خاصّة
عن البصمة الموسيقية التي يحرص المايسترو "صلاح القباني" على وجودها فيما يقدّمون يقول: «مما لا شكّ فيه أن بصمتنا الموسيقية موجودة وواضحة، فقديماً كان هناك "تخت شرقي" يضمّ عدة آلات موسيقيّة "كمان، عود، قانون، رق". ولكنْ ضمن الفرقة التي أقودها هناك من أربعة إلى ستة عازفين على آلة "كمان"، وعازِفَي "فيولا"، وعازِفَي "إيقاع"، إضافة إلى "التشيللو" و"الكونترباص" و"العود" و"القانون" و"الناي". فالفرقةُ تكبر وتتوسّع ضمن إطار "التخت الشرقي"».
وفيما يتعلّق ببصمته في التنويط الموسيقي، يقول: «نشتغل حسب الجمالية، ونحاول إدخال مقامات جديدة، فمثلاً نقدم عملاً على مقام "الرصد" ونطعّمه بمقام "السوزناك"، الأمر الذي لاقى استحساناً وتشجيعاً، وخاصّة من الجيل الشاب، حيثُ كان يحضر حفلاتنا شرائحُ عمريةٌ متنوعة بمن فيها الشباب صغار السن، وكانوا يعبّرون عن دهشتهم لما يسمعون من أعمال تراثيّة، وهو ما شجعني لأستمرّ وأبحثَ لأقدمَ أعمالاً جديدة كل مرة».
"الموسيقى العربية لإحياء التراث"
كيف وُلدتْ فكرة تأسيس فرقة أخرى تمت تسميتها بفرقة "الموسيقى العربية لإحياء التراث"، وأين تكمن خصوصية ما تقدّمه من أعمال موسيقية؟ يجيب قائلاً: «وجدتُ أنّه لا بدّ من تطوير ما نقدّمه، فأضفْنا "الموشح الأندلسي"، واخترنا الموشحات غير المطروقة وغير المسموعة، وبدّلنا ملابس الفرقة بما يتناسب مع "الموشح الأندلسي"، ورافقتنا فرقة "أمية" للرقص الشعبي لتقديم رقص "السماح". وأحيينا أوّل حفل ضمن فرقة "الموسيقى العربية لإحياء التراث" عام 2016 في دار الأوبرا، وقدّمنا فيه دور "يلي بشتكي من الهوى"، وكان معي الوشاح والمنشد "عبد الرحمن عبد المولى" والمنشد "عدنان حلاق"، وفيما بعد أدخلتُ فريق كورال من الصبايا بصوت "سوبرانو" ليتناسبَ مع الموشحات الأندلسية».
وحول الحفلات التي أحيتها فرقة "الموسيقى العربية لإحياء التراث"، يبيّن أنه كان هناك توجّه في دار الأوبرا عام 2016 نحو إنجاز حفل شهري يكون بمنزلة ليلة مع أحد الملحنين السوريين القدامى، فقدّمتِ الفرقة سهرةً مع "عمر البطش" وسهرةً مع "أبي خليل القباني"، وموشحات لـ "بكري الكردي"، وفي كل مرة كان يتم البحث عن الأعمال غير المسموعة للملحن، ويوضع في البرنامج القليل من المسموع والمعروف، ليُقدّم ما يتناسب مع الجمهور، بحيث يوازي بين "الجمال وما هو مُندثر" ضمن الحفل نفسه.
ويتابع: «قدّمنا على مسرح "الحمراء" عدة حفلات وطنية بين عامي "2016 و2022" مع المطرب "عماد رامي" الذي كتب ولحن الأغاني، كما قدّمنا معه "فرانكو أرب" وجاز، حيث خرجنا حينها عن نمط التراث نحو النمط الحديث معه ومع المطرب "دريد عواضة"».
القدّ الحلبي والموشّح
وعمّا قدّمته الفرقة مؤخراً، يقول: «لا نزال نقدّم "القد الحلبي والموشح"، واستقطبتُ المطرب "حسام اللبناني" وهو من تلاميذ "صبري المدلل". وقدّمنا أعمالاً صعبة، بما فيها مقام "اليغا" وقلة من المنشدين يعرفونه، ليس تبخيساً بحقهم ولكنّه مقامٌ صعب وجلالي. كما اشتغلتُ مع المطرب "شادي عبد الكريم" أعمالاً مهمّة أيضاً، وكنت أضع في كل حفلة فقرة "دينية" و"ميلوية"، لأقولَ إنَّ فرقة "الموسيقى العربية لإحياء التراث" لا تزال مرتبطةً بفرقة "الدراويش الشامية"، وكي لا يُنسى اسمها».
ويشير إلى أنّه في الحفل الأخير الذي أقيم على هامش معرض الكتاب السوري "2024" استقطبَ المطرب "هيثم ورد الشام" الملقّب سابقاً بـ "هيثم خيري"، حيث أدى وصلة قدود وأغانٍ من الموشحات والتراث الحلبي. ويؤكد لـ "مدونة الموسيقا" أنّه يقوم مع فرقته حالياً بالتحضير لعمل مهمّ بعنوان "ليلة مع زكريا أحمد".
وعن الأماكن التي أحيا فيها حفلات موسيقية مع فرقة "الدراويش الشامية"، يلفت إلى أنّهم قدّموا حفلاتهم في "الشارقة ودبي"، وداخل سورية في العديد من المحافظات، بما فيها "حمص وحماة وحلب والنبك والسويداء ودرعا وريف دمشق في قطان". أمّا فرقة "الموسيقى العربية لإحياء التراث" فأُسّستْ فترة الأزمة لذلك لم تحقّق بعد مشاركات خارج سورية.
التوثيق والتدوين
يؤكد المايسترو "صلاح القباني" أنّه يعمل ضمن إطار التوثيق فيما يُقدم، يقول: «بعد أنْ طبع والدي كتاب "جامع النفحات القدسية" ولمستُ الإقبال الكبير عليه، وجدتُ أنّه من الجيد ترافق الكتاب مع النوط الموسيقية والأقراص المدمجة "صوت وصورة" لفرقة تؤدي هذه الأعمال، وبذلك أكون قد زدتُ من التوثيق على الكتاب».
وحول من يقومون بتعديل الأعمال الموسيقية التراثية ينبّه إلى أنَّ من يعمل بقصد التوثيق سيقدّم "ميلودي" صحيحاً مئة بالمئة، أمّا من يعمل وفق ما يتناسب مع العصر الحالي فسيلجأ إلى إدخال تعديلات على الأعمال التراثيّة. ولكنّه يشدد على أن ما يقدّمه هو "التوثيق".
عمل جدي ومدروس
عازف الكمان "نبيل شوشر" الذي بدأ العمل في الفرقة منذ "عامين ونصف العام"، يؤكّد أهمية ما يتم تقديمه، يقول: «نفتقر إلى فرقة تهتم بالتراث والموسيقا الشرقية، وعندما أسّس الأستاذ "صلاح القباني" الفرقة سررتُ بها جداً وإن لم أكن معهم حينها، خاصّة أنّني أهتمّ بالتراث، وقدّمتِ الفرقة خلال مسيرتها أعمالاً موسيقية مهمّة، وتمتاز آلية العمل فيها بالجدية، حيث تتم دراسة العمل ليصل إلى الشكل الأفضل، وأعتبر أنّ الفرقة تقدّم ما نرغب بسماعه، وخاصّة في ظل طغيان حضور الفرق التي تقدم الموسيقا الغربية. وبالتالي هي دعوة ليعود الجمهور إلى تراثه».
حول آلية العمل خلال البروفات يشير إلى أن المايسترو "صلاح القباني" يعطي مساحةً للنقاش، فإن كانت لدى أحدهم رؤية موسيقيّة معيّنة تتمّ دراستها للوصول إلى الحلّ الأمثل بحيث يعيدون العمل إلى الأصل ليخرج بزهوته كاملة.
الهدف نجاح العمل
المطرب "حسام اللبناني" الذي أحيا مجموعة حفلاتٍ مع الفرقة، يقول: «التحقتُ بالفرقة عام "2014" وكان لي شرف العمل مع المايسترو "صلاح القباني" فهو مبدعٌ ومتواضعٌ، وهمّه نجاح العمل، وأذكر أوّل حفل شاركتُ فيه معه، وكان سهرة مع "أبي خليل القباني" وحقّق حينها صدى طيباً، كما أقمْنا حفلاتٍ في دمشق وفي عدة محافظات أخرى. وإلى اليوم الفرقة مستمرّة في عطائها، ولدينا بروفات بشكل أسبوعي لنكون جاهزين دائماً بغضّ النظر عن وجود حفلة».