اختاره "صباح فخري" ليكونَ ضمن فرقته في واحدة من أشهر حفلاته في قصر المؤتمرات في "باريس" عام 1978، كان يجلس بين عازفي الفرقة الموسيقية طالب دكتوراه في الهندسة المدنيّة يعزف على آلة "القانون". اختياره من "صباح فخري" ليكون ضمن فرقته جعل من السهل التوقّع لهذا الشاب أن يكون علامةً فارقةً في مجال الموسيقا، إنه الراحل الباحث الموسيقي الدكتور "سعد الله آغا القلعة".

من هو؟

هو ابن "فؤاد رجائي آغا القلعة"، طبيب الأسنان والباحث الذي قدّم أبحاثاً موسيقية مهمّة، وأسس على نفقته معهد حلب الموسيقي، ولد "سعد الله آغا القلعة" في "حلب" عام 1950، وكان صاحب توجّه فني وعلميّ مبكر. درس الموسيقا في المعهد ذاته الذي أسّسه والده، فمنذ نعومة أظفاره أبدى شغفاً لافتاً بالموسيقا، حيث أتقن العزف على آلة القانون وعشق المقامات الشرقيّة، بالتوازي مع تفوقه الأكاديمي الذي قاده لدراسة الهندسة المدنية في "جامعة حلب"، قبل أن ينال الدكتوراه من "فرنسا" عام 1982.

مقاربة علمية

كان "آغا القلعة" يرى أن الموسيقا العربية بحاجة إلى مقاربة علميّة حديثة، تصون التراث وتعيد تقديمه للأجيال بأسلوب مبسّط دون الإخلال بالدقة الأكاديمية، وكان يدرك أنّ العلم والموسيقا ليسا عوالم متوازية منفصلة، بل يراهما مكملين بعضهما بعضًا. وعبّر عن ذلك بقوله: "العلم والموسيقا عندي ليسا عالمين متوازيين، بل هما مكملان بعضهما بعضاً".

الباحث الموسيقي سعد الله آغا القلعة

كان الباحث والناقد "سعد الله آغا القلعة" يعرفُ مدى قدرة الموسيقا وهيمنتها على السمع. ومع أنَّه كأيِّ باحث ومثقَّف كان يخطئ ويصيب في استنتاجاته، ولكنَّه كشف عن جمالية العبقرية الموسيقية العربية، ومدى أثرها على حياة الناس كونها تشكِّلُ حالةً ثقافيةً، فيفصلُ بين الموسيقا الهابِطة كونها للزينة والترف والترويح، وبين الموسيقا التي هي أقربُ في تأليفها وغنائِها إلى البحث الأنطولوجي الوجودي، باعتبارها حاجة جمالية ترقى بالإنسان إلى النبل والسمو.

المعلوماتيّة والتراث الموسيقي

استطاع توظيف تقنيات الحاسوب والمعلوماتية في خدمة تحليل التراث الموسيقيّ، ثمّ نشره تلفزيونياً، مستفيداً من تخصّصه في الموسيقا والهندسة والمعلوماتيّة والحاسوب في آنٍ واحد، إضافة إلى تمرسه في العمل التلفزيوني.

الباحث الموسيقي سعد الله آغا القلعة

كان ذلك من خلال إنجازه لنظام معلومات الموسيقا العربية، المشكّل من عدد كبير من قواعد البيانات المتنوعة والمترابطة، كقاعدة الكلمات المفتاحية للموسيقا العربية، المتضمنة شروحات كاملة لأكثر من 1600 عنوان، إضافة إلى قاعدة مراجع الموسيقا العربية، التي توثّق لمئات المراجع والكتب والدراسات الموسيقيّة العربية على الحاسوب، ما يسهل عمل الباحث بالرجوع إلى أي موضوع يختاره، فيعلمه الحاسوب وعبر الكلمات المفتاحية المطلوبة عن جميع الفقرات التي وردتْ فيها نصوصٌ تتضمّن تلك الكلمات المفتاحية.

ويضم النظام أيضاً قاعدة معلومات الأعمال الغنائية العربية، وهي قاعدة بيانات تحدد للأغاني والأعمال الموسيقية العربية "المؤلف والملحن والمؤدي وسنة الإنتاج والمقام والإيقاع والقالب"، وقاعدة البيانات الصوتية، التي تمّ عبرها توثيق مئات الأغاني والأعمال الموسيقيّة على الحاسوب، مع إنجاز وصياغة وتوثيق تحليلها الموسيقي، مرتبطة بتاريخ العمل الغنائي وعناصره الموسيقية، وقاعدة البيانات المصورة وهي قاعدة مماثلة للقاعدة الصوتية، ولكن التوثيق فيها كان للأغاني السينمائية والمصورة، وقاعدة نصوص الأغاني العربية وتحليلها، وقد خزنت فيها آلاف الأبيات المغنّاة مع تحليلها الموسيقيّ المرافق عبر ربطها بقواعد البيانات الصوتيّة والمصوّرة، بغية مساعدة الباحث -ومن خلال ترابط القواعد- على استرجاع أي عمل غنائي مع الكلمات، وسماع اللحن في أي نقطة منه وبشكل آني، أو مشاهدته إن كان عملاً سينمائياً، ومقارنته مثلاً مع أي جزء من أغنية أخرى مباشرة، كما تسمح تلك القواعد باكتشاف القالب على اختلاف تعقيداته في الموسيقا العربية، وكذلك طول الجملة اللحنية والفقرة اللحنية.

سعد الله آغا القلعة خلال تصوير برنامج عن محمد عبد الوهاب
سعد الله آغا القلعة يعزف على القانون

قيمة مضافة

هو من أوائل الموسيقيين الذين قدموا قراءةً علميةً للمقامات الشرقية، من خلال الاستخدام المُبكر للتكنولوجيا في تحليل الموسيقى. وحاول تقديم هذا الجهد للجمهور في عدد من الكتب والبرامج التلفزيونية التي قدّمها على التلفزيون السوري، والتي بلغ عددها ثلاثمئة ساعةِ بثّ تلفزيونيّ أطلق من خلالها مشروعه الطموح "نهضة موسيقية عربية جديدة"، معتمداً الإعلام الثقافي وسيلة رئيسية لنشر رؤيته، وذلك عبر برامجه التلفزيونية الشهيرة، مثل "العرب والموسيقا"، و"عبد الوهاب مرآة عصره"، و"أسمهان"، و"نهج الأغاني". تمكّن الراحل من تبسيط المفاهيم الموسيقيّة للجمهور، محللاً الألحان الكلاسيكية ومضيئاً على القوالب الغنائية العربية، بطريقة تجمع بين التوثيق والتحليل والشرح السلس.

ومن لا يتذكر برنامجه التلفزيوني الشهير «عبد الوهَّاب مرآة عصره» الذي فاجأ به القلعة المشاهدين في بداية التسعينيات، وسط ديكور شرقي بسيط ومذيع يجلس بجانب جهاز كمبيوتر لم تكن ألفته الأوساط العربية بعد. وراح يشرح بشكل علمي مبسّط صوت وأداء عبد الوهاب، ما دعا التلفزيون المصري للاستعانة ببثّ أول حلقة من البرنامج في الذكرى الثانية لوفاة موسيقار الأجيال.

كتَب د. سعد الله آغا القلعة سبعة نصوص باللغة الإنكليزية عن شخصيات موسيقيّة سوريّة لموسوعة "غروف - GROVE" الموسيقية العالمية، تناولت تلك النصوص حياة وفنّ كلٍّ من "أحمد أبو خليل القباني" للمسرح الغنائي، "عمر البطش" للتلحين، "علي الدرويش" للتدريس والتوثيق والبحث، "فؤاد رجائي" لرعاية الموسيقا ونشرها، "صباح فخري" للغناء، "أسمهان" للغناء، "فريد الأطرش" للغناء والتلحين وعزف العود.

كُتب عنه بحث علميّ بعنوان (الاستفادة من موسوعة "كتاب الأغاني الثاني" للدكتور سعدالله آغا القلعة في تدريس مادة تذوق الموسيقا العربية) من تأليف إيهاب حامد عبد العظيم، وأحمد بديع محمد، وأماني عبد الشهيد سعيد. ونشر في مجلة دراسات وبحوث التربية النوعية، جامعة الزقازيق في مصر، عام 2022.

التنافس والنهضة الموسيقية

يرى "آغا القلعة" أنه لا يمكن التأسيس لأي نهضة موسيقيّة من خلال الأصوات فقط؛ لأن الأصوات التي يهتمّ الجميع بإبرازها لا تصنع الإبداع بل تحرضه، شريطة أن يكونَ موجوداً، على حدّ قوله في أحد لقاءته مع صحيفة العرب اللندنية:

«نلاحظ أن الأصوات سرعان ما تختفي؛ إذ تفتقد المبدع الذي يقدمها في الحلة المناسبة، وتفتقد توافر مجموعة من الملحنين الموهوبين، لكي تحرض تلك الأصوات وتنافسهم. ونحن لو تتبعنا فترة النهضة الموسيقية العربية في القرن العشرين لوجدنا مثلاً أن أم "كلثوم وأسمهان وفيروز وعبد الحليم"، حرّضوا مع غيرهم من الأصوات الملحنين المبدعين على التنافس. ولكن تنافس "محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وفريد الأطرش ومحمد القصبجي وزكريا أحمد وبليغ حمدي ومحمد الموجي" وغيرهم، هو الذي أسهم في ولادة النهضة الموسيقية».

حازت أعمال "آغا القلعة" العديد من الجوائز والتكريمات، فحصل برنامجه "عبد الوهاب مرآة عصره" على "الكارتوش الفضيّ" في مهرجان القاهرة للتلفزيون 1993، كما حاز بفضل تقديمه لبرنامج "أسمهان" لقب أفضل مقدّم برامج عربي، في استفتاء لمجلة الرياضة والشباب بدبي عام 1996، بينما حاز الميدالية الذهبية لأفضل تقديم عن برنامج "نهج الأغاني" في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون.

كذلك تم تكريمه في حفل افتتاح الدورة الثامنة لمؤتمر ومهرجان الموسيقا العربية في القاهرة أواخر التسعينيات، وفي حفل افتتاح الدورة السابعة عشرة لمؤتمر ومهرجان الموسيقا العربية في القاهرة في 2008.

الذكاء الصناعي

ويوافق المايسترو "نزيه أسعد" على رأي الراحل "آغا القلعة" حيال التأثير السلبي المتعلق بغياب الإحساس البشري والإبداع الحيّ في الموسيقا نتيجة دخول "الذكاء الصناعي"، ويقول في حديثه لـ "مدونة الموسيقا":

«دخول التقنية و"الذكاء الصناعي" جعل الموسيقا تخلو تماماً من ذلك الاحساس البشريّ والصدق العاطفي، وفي حال تمّ برمجتها بطرق تكنولوجيّة حديثة عندها تفقد الموسيقا الإحساس؛ لأنها تتحوّل إلى قطع ميكانيكيّة بعيدة عن العذوبة والعفوية البشرية المبدعة التي تسكب إبداعها في جملة موسيقيّة نابضة بالحياة، وعليه فثمة فجوةٌ واسعةٌ بين ما ينتجه الإنسان المبدع من فطرته وإحساسه مع المنتج من الضغط على الأزرار في لوحة المفاتيح للحاسب أو غيره من التقنيات بهدف صنع قطعة موسيقيّة، وبهذه الحالة تتحوّل الموسيقا إلى إجراء آلي يبتعد عن الروح البشرية، ويأخذ الانسان إلى عوالمَ تكنولوجية باردة خالية من الإحساس».

قلعة الموسيقا العربية

صعبٌ جداً اختصار مسيرة "قلعة الموسيقا العربية" الدكتور المهندس "سعد الله آغا القلعة" ببضعة سطور، تعلم أبجدياتها الموسيقيّة منذ سنّ الرابعة، ولم يتركها حتى حوّلها إلى نظام معلوماتي وضعه في خدمة تحليل الموسيقا العربية. مستخدماً شتّى وسائل الاتصال والتواصل، سابقاً عصره، في التقنيات التلفزيونية والأدوات المعلوماتية.

توفّي في كاليفورنيا، مساء يوم الأحد 29 شوَّال 1446هـ الموافق 27 نيسان 2025 م، عن عمر ناهز خمسة وسبعين عاماً، بعد صراع مع المرض.